حسين شبكشي

أشاهد أحداث المذابح الدموية المتواصلة التي لم تتوقف لآخر 4 سنوات من نظام بشار الأسد بحق شعبه، والتي استخدم فيها كل الوسائل من تعذيب وحرق وقتل وسحل وتدمير بشكل همجي، مما يجعل منظر جماعة «داعش» و«مشهد حرق» معاذ الكساسبة جزءا بسيطا جدا من الشكل المدمر الذي يعيشه الشعب السوري.


تذكرت بألم وحسرة بالغين آخر زيارة لي إلى سوريا وقد جمعني لقاء بسيط في أحد المقاهي مع عدد محدود من المعارف، وكنا نتحدث عن الاقتصاد في البيرو (من دون أي مبالغة) وكيف أن البيرو تحاول تدبير اقتصادها لتصبح دولة ذات كيان في قارة واعدة، وبعد مضي قليل من الوقت، نحو ثلث ساعة، جاء إلينا شاب مهذب يعمل في المقهى تبدو على وجهه علامات الذعر والخوف والقلق، وقال بصوت يرتجف وخافت وهو يلتفت حول نفسه: «منشان الله ما تحكو في السياسة، لا عن جد ولا عن مزح». كان مشهده يلخص ما حصل في سوريا وشعبها الذي تحول إلى دولة الخوف وجمهورية الرعب، وبلا رأي وبلا ثقة، ولديه الشك في كل شيء وكل أحد، حتى تحول إلى الشك في الأنفس نفسها.


ركبنا السيارة التي كانت تقلنا من المقهى ونوينا الرجوع بها إلى مقر إقامتنا في الفندق، وكان معي أحد الأصدقاء الذي كان يزور سوريا لأول مرة، وهو طبعا على علم بدولة الرعب والمراقبة والمباحث والمخابرات ذات الألف فرع ونوع، فسأل سائق السيارة بكل برود: «هل السيارة مزودة بأجهزة رقابة وتسجيل وميكرفونات وكاميرات؟»، فتلعثم السائق وارتبك وتوتر وأجاب بعصبية واضطراب شديدين: «أعوذ بالله لا يا رجل ما في هيك شي أبدا». وما كانت إلا لحظات قصيرة ليصدح بعدها صوت صباح فخري المطرب الحلبي الأشهر من صوت الراديو ويردد أحد أشهر القدود الحلبية المعروفة: «سيبوني يا ناس في حالي في حالي أروح مطرح ما أروح». بدأت الأغنية بكلماتها الرائعة، وكأنها لسان الحال المناسبة، وأشبه باستغاثة قدرها واحترمها الكل دون استثناء.


دمشق كانت عاصمة عظيمة ذات تاريخ مهيب، ولكن كان يسكنها شعب عزيز ولكنه مكسور، نظرات الخوف والأسى والحسرة تملأ العيون، ولا أحد يجرؤ على الحديث عن مطربه المفضل أو ناديه المفضل أو لونه المفضل قبل أن يدور رأسه 180 درجة في كل اتجاه وكأنه رأس غواصة متحرك ليراقب ويقيم ويحسب حساب المكان. كم هو سخيف ومهين ومريض أن تزور بلدا عظيما كسوريا وتجد كل هذا الإرث الحضاري والمجد المهيب منسوبا وبجرة قلم إلى شخص واحد انتقل بعدها النسب إلى ابنه الصغير، ولذلك مع كل هذه المشاهد لا يكون مستغربا حين نصل إلى الفندق ليستقبلنا «موظف الاستقبال»، ليسألنا: «كيف كان مشوارنا للمقهى؟ وكيف كان معكم أبو سامر السواق؟ وكيف الزهورات التي شربتوها؟ وكيف محل النحاسيات اللي وقفتوا أمامه؟».

كانت الرسائل واضحة؛ إنكم تحت أعيننا ومراقبون ولكنكم تظلون «ضيوفنا». سوريا الأسد التي احتل جولانها واخترقت سيادتها لم تلبث ذات يوم بالدفاع عن شرفها وأرضها لأن الأسد وزبانيته كانوا منشغلين بالكتم على أفواه الشعب السوري وسرقة أمواله وخيراته حتى دمروها، وبالتالي لم يكن غريبا أن ينفجر غضب الشعب السوري على النظام الذي يحكمه ويذله، وها هي آثار الغضب والعالم يتآمر على الشعب بالتزام الصمت وإنكار وجود الجريمة الأصلية، وهي حكم الأسد، ولكن دوما أردد 3 أقوال تصف الواقع السوري باختصار وتشرح ما يحصل: أمن سوريا من أمن إسرائيل - رامي مخلوف. سنقاتل حتى النهاية دفاعا عن الأسد - حسن نصر. بقاء الأسد مهم وضمان لأمن إسرائيل - بنيامين نتنياهو.. وهكذا إذا عرف السبب بطل العجب.