عبدالله بن بجاد العتيبي

بين تخاذلٍ دولي وانشغالٍ إقليمي ونزاعاتٍ وصراعاتٍ ودسائس داخلية، تجلّت الأوضاع في اليمن عن نموذجٍ جديدٍ لاستقرار الفوضى في المنطقة، إنه بطبيعة الحال نموذجٌ خاصٌّ يختلف عن غيره من النماذج المتعددة في الجمهوريات العربية المنتفضة.


«استقرار الفوضى» هو مصطلح كتب عنه كاتب هذه السطور سابقا، وهو يعني النقيض لفكرة «استقرار الدولة»، وقد سبق التفصيل فيه في هذه المساحة في مقالة تحمل هذا المصطلح عنوانا في 10 مارس (آذار) 2013، وجاء فيه عن اليمن: «وفي اليمن الأمر لا يختلف كثيرا في صورته العامة، حيث إن (استقرار الفوضى) لا يعوق الحلول السياسية والأحزاب المتصارعة إلا بقدر ما يمنح تنظيم القاعدة مجالا رحبا للعمل والتخريب».


اليوم، اكتمل «انقلاب الحوثي» على السلطة في اليمن، وبالتعاون مع الرئيس السابق علي عبد الله صالح ومناصريه وأعوانه في القوات المسلحة وفي الدولة، استطاع أن يرمي وراءه المبادرة الخليجية ومخرجات الحوار الوطني واتفاق السلم والشراكة، ثم لفظ أخيرا حزب المؤتمر وصالح نفسه ليكمل انقلابا إيرانيا متكامل الأركان.


لقد انهارت الدولة في اليمن، واستولت جماعة إرهابية مسلحة على مقاليد السلطة هناك، واختفى خصومها المتشرذمون من المشهد، إنها لحظة أشبه ما تكون باستيلاء حركة طالبان الإرهابية المسلحة على كابل.
خرجت السفارات الغربية من اليمن (أميركا، بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا)، وكل الشركاء السياسيين في المرحلة السابقة تمّ إقصاؤهم، وهم لم يزالوا مشتتين مشرذمين بلا قيادة ولا تأثيرٍ حقيقي على الأرض، وبقي على الحوثي أن يدير دولة بعقلية جماعة مسلحة إرهابية وطائفية وبلا موارد.


ثمة أسئلة يجب أن تطرح في هذا السياق، أولا: هل ثمة حلٌّ ناجزٌ لمشكلة اليمن؟ وثانيا: هل يستطيع الحوثي قيادة الدولة وخدمة الشعب؟ ثالثا: هل تستطيع إيران تحمل أعباء دولة كاملة كاليمن؟
أولا: لا يوجد حلٌّ ناجزٌ لليمن، ولكن يمكن خلق أكثر من سيناريو للحل على أن يكون حلا ترعاه المملكة العربية السعودية ودول الخليج والدول العربية، وأن يتم ضمن غطاءٍ دوليٍ، وهو ما بادرت به السعودية ودول الخليج في القرار الصادر من مجلس الأمن، والذي يمثل بداية صحيحة لحل الأزمة اليمنية.


والسعودية يفترض بها قيادة هذا الحل؛ لأن اليمن يعتبر عمقا استراتيجيا حقيقيا للسعودية، وهي بعلاقاتها الواسعة والتاريخية بالقوى السياسية وبالشعب اليمني كقبائل وتجمعاتٍ متعددة، وبوصفها قائدا حاليا للدول العربية ومدافعا عن استقرارها ومصالح شعوبها، قادرة على خلق حلولٍ خلاقة وعملية، وخلق المناخ الملائم لإنجاح أي حلٍّ يمكن أن تتبناه.


معلومٌ أن تشابكات المشهد اليمني شديدة التعقيد والتشابك، وأن أي حلٍّ سيطرح سيواجه العديد من الصعوبات والتحديات، وأن استعادة الاستقرار في اليمن عسيرة ولكنها ليست مستحيلة، فقد سبق للسعودية وحلفائها في المنطقة استعادة الاستقرار في مصر، مع التأكيد على اختلاف النموذجين.


ثانيا: لن يستطيع الحوثي أن يقود الدولة ويوفر خدماتٍ للشعب، لأن الإبداع في «استقرار الفوضى» الذي يتقنه ينافي أي قدرة أو معرفة أو حتى إرادة لاستعادة «استقرار الدولة»، وهو سيسعى جهده لإبقاء وضع «اللادولة» حيث يستطيع أن يعيش ويؤثر.


في الوقت نفسه وكتابعٍ آخر للمشروع الإيراني في المنطقة نشط تنظيم القاعدة في جنوب اليمن، وأخذ، بمساعداتٍ من بعض العسكريين والحكام الإداريين التابعين لصالح، أن يسيطر على بعض معسكرات الجيش، وهو ما سيزيد من نشاط التنظيم ويقويه على التأثير السياسي.


إن إعادة «استقرار الدولة» لليمن يفترض أن تتم عن طريق استعادة الدولة وبناء اقتصاد قابل للعيش والنمو، وتوفير الخدمات الأساسية للشعب مع إدارة وطنية فاعلة، وهذي المهام الكبرى يستحيل على ميليشيا طائفية إرهابية أن تفكر فيها، فضلا عن أن تنفذها، والشعارات الثورية الطائفية لا تطعم خبزا ولا توفّر أمنا ولا تعتني بصحة ولا تعليمٍ، بل هي إلى النقيض أقرب.


ثالثا: لا تستطيع إيران تحمّل دولة بحجم اليمن، وخبرة إيران هي في خلق الفوضى لا بناء الاستقرار، وحديث الرئيس الإيراني عن نفوذ إيران في المنطقة وأنها بوابة الاستقرار، هو دفعٌ بالصدر وهو أقرب إلى السخرية منه للحديث الجاد.


إن احتياجات اليمن واحتياجات المحافظة عليه ستقضي تدريجيا على اقتصاد إيران المنهك داخليا والمنهك أكثر من الصرف الضخم على محاولات التوسع والنفوذ عبر الجماعات الإرهابية التابعة له في العراق وسوريا ولبنان وقطاع غزة.


ما تغفل عنه إيران هو أن الدول العربية بقيادة السعودية ودول الخليج قادرة بنفسها وبقدراتها الذاتية على لجم الجموح الإيراني، فكيف إذا كان أي حلٍّ للأزمة اليمنية يمكن بسهولة توفير غطاء ودعمٍ دولي له، وأي تفاوضٍ دولي مع إيران يجب أن يجبر إيران على الالتزام بمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية، وهو مبدأٌ شهد اهتزازا في السنوات الأخيرة ودفع السعودية لرفض مقعدها في مجلس الأمن، حتى يتم تعديل الخلل القائم في النظام الدولي.
إن جماعة «أنصار الله» الحوثية ليست حزبا منظما مثل حزب الله اللبناني، وهي لم تزل ميليشيا متوحشة هدفها نشر الفوضى والسلب والنهب واستعراض القوة، بمعنى أنها ليست حزبا منظما ومتماسكا، ويمكن في لحظات الفوضى كالتي يعيشها اليمن أن يحدث فيها انشقاقات تضعفها وتقلل من تأثيرها، وهي إمكانية يثبتها التاريخ ويمكن أن تساعد عليها السياسة.


القوى السياسية القائمة في اليمن بأحزابها وتياراتها أثبتت ضعفا وتفككا غير مسبوقٍ، وأغلبها غير قابلٍ للعيش في المستقبل، ويمكن كجزءٍ من الحل مساعدة الشعب اليمني على خلق تياراتٍ وأحزابٍ جديدة تحظى بالشعبية المطلوبة وتكون قادرة على مواجهة «استقرار الفوضى» وتغوّل الجماعتين الإرهابيتين «الحوثي» و«القاعدة».


آيديولوجيات وجماعات الإسلام السياسي السنية والشيعية، رغم اتحاد مصدرها وتشابه خطابها وقوة العلاقات التاريخية التي تربطها، فإنها بدأت تشهد شيئا من التضعضع والتباعد، في سوريا قديما، وفي العراق واليمن مؤخرا، وهو مدخلٌ مهمٌّ للمساعدة في بناء أي حل للأزمة اليمنية، وذلك بوصف جماعات الإسلام السياسي، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين، جماعة إرهابية، وقد بدأت إيران بالتخلي عنها لصالح الجماعات الأكثر إجراما وتأثيرا.
أخيرا، إن أي حلٍّ للأزمة اليمنية ينبغي أن يستحضر أن جماعة الحوثي لا تمثل المذهب الزيدي في اليمن، بل تمثل جماعة إرهابية مسلحة تحاول اختطاف تمثيل هذا المذهب، وثمة شخصياتٌ زيدية ذات ثقل سياسي وقبلي لا تقبل بمشروع الحوثي ولا ترضى باختطافه للمذهب يجب أن تكون شريكة في الحل.