&بول شاوول


قبل عشر سنوات، وفي تلك الظهيرة الجاحدة، الخَؤون، من 14 شباط 2005، دوّى الموت. الموت الاستثنائي. المقتلة الاستثنائية. دوّى موت آخر أكبر من الموت. مقتلة ولا كالمقتلات، تحت شهادة الشمس القاسية، والطرقات المفتوحة في بيروت الساحل البحري، الهادئ، الملول. شيء ما اختلط في تلك اللحظة بزمن أسود. بزمن تضرّج بدم رجل، ولا كالرجال. فجّروا رجلاً واحداً بألفي طنّ من الحقد.. كأنما أرادوا أن يقتلوه ألفي مرة. أن يقتلوه بألف شظية من شظايا نفوسهم الميتة: كأنما لا يقتلُ حياً بهذه الطريقة سوى الموتى. الموتى قتلوا الحي الذي بقي حياً. ماتوا قبل أن يقتلوه. تفجّروا قبل أن يفجّروه. احترقوا بجحيمهم قبل أن يُحرقوه بنارهم. تلك الظهيرة الجاحدة من شباط الجاحد. ذكرى المقتلة الكبرى.

قبل عشر سنوات، صار دولة الرئيس رفيق الحريري، دولة الرئيس الشهيد رفيق الحريري.. أف! وأي مسافة بين العبارتين. أي شذوذ في قواعد التاريخ. والمدن؟ أي هاوية. بل أي سماء تنفصل عن السماء. أي كائن بحجم وطن يفترق جسداً عن الوطن. إنها الظلامة اللامتناهية. لكنها أيضاً الدمعة الوريفة التي تمزج كل تلك المسافات المقطوعة. البائرة. العزلاء. كيف يصير فجأة ملايين الناس دمعة واحدة؟ كيف تصير دمعة حنون حارة سخية، قاسية، غضوب، أكثر دوياً من ألفي طن من الحقد؟

بل كيف تفتتح دمعة على شهيد كلّ هذه المغالق والمسالك، والطرقات، والشوارع، والمدن. كيف لدمعة أن تصل المسافة الشاغرة بالموت، بالزمن الحي. بالعيون الحية. بالعيون التي شقّت سُجُف النوم، والليل، ونظرت إلى الشمس الجاحدة بعيون مفتوحة، بكل سماءاتها، بعيون غضبى كأنها المعجزة!

سنوات عشر مرّت، ولم يمرّ الشهيد. غادر الحُطام والركام باكراً. غادر الذين قتلوه وعاد إلى المدينة. عاد إلى بيروت حيث اختارها مكاناً لمقتلته. لكن لم يَعُدْ وحده هذه المرة. عاد الملايين معه. كل المدن. والدساكر والجبال والأطفال. عادوا، لا ليسترجعوا دمعةً، أو حُرقةً حفرت تحفير السنين، ولا ليستعيدوا مشهد التراجيديا في أقصى أحوالها، وعبثيتها، عادوا معه، ومعهم لبنان. زمنهم المفقود. الزمن اللبناني الآخر. بل الزمن العربي الآخر. أحسوا جميعهم، أن هذا الرجل الذي استشهد، رفع الشهادة إلى مستوى الحياة.

كأن «الرفيق» عرّف بنفسه أكثر اليوم لمن لم يُحسنوا معرفته أمس (الشهادة باب من أبواب الانتباه)، عرّف بنفسه عندما عرّف به الناس، على غير وصايا، وكلمات، فقط، بل بما شهد عليه، بعد رحيله: الأثر الحي، هو الإنسان الحي عائداً. وكان لنا، وللآخرين، استرجاع الذاكرة، على غير طراوة، وعلى غير انتكاس، بل الذاكرة، لتكون لهفة الاكتشاف.

والاسترجاع استرشاد وتحريك لواعج وفحص ضمائر، ونبش أعماق، ومساءلة تاريخ: هذه المقتلة استثنائية لأن الضحية هو الزمن الآخر الآتي. الزمن المختلف. أو فلنقل الخروج على الزمن الذي كان سائداً. نعم! واكتشفنا أن الرفيق الكبير رفيق الحريري، كان يغالب، ويُجذِّف، عكس التيار. كان الرجل الذي يُجذف عكس التيار، محاصراً بالعواصف والجنون، والعنف والخطر. والناس. والعقوق. وكان إذا ما خانه المجذاف، جذف بيديه العاريتين. وبقلبه، وبشغفه. ذلك أن من يغالب التيار، يعرف حجم المجازفة (والمجازفة باب من أبواب الشهادة).

نعم! رفيق الحريري بعد عشر سنوات من غيابه بدا الوجه الذي غالب زمناً بكامله: الزمن الموروث من الاستعمار، من الوصايات المتعاقبة، والميليشيات، والدمار، والقسمة والخراب، والكراهية، والفوضى والعنف، أف! عندما بدأ حياته السياسية في لبنان، لم يكن من لبنان مستقل ولا حر ولا سيادي ولا ديموقراطية. ولا حدود. ولا دولة. ولا حكومات حرة. ورث ما ورث من آثار الحروب «المجنونة» الهمجية. ورث العقول الكانتونية والاقتصاد المنهار والعدالة المسيّسة (نتذكر عضوم)، ورئاسة جمهورية بلا جمهورية. وجمهورية بلا رئيس. كأن كل شيء كان ينتمي حوله إلى «أزمنة» بائدة. لكن عصية ممانعة. وفي المدى العربي: أنظمة طغيانية، فتاكة، بطّاشة، نهّابة غير ثورية سوى باستخدامها الطرق الثورية للقتل، والقمع والاستبداد والأحادية، والقائد الواحد، والجيوش المهزومة، والأنظمة الديكتاتورية، من سوريا إلى العراق... إلى ليبيا، إلى إيران، اليمن، مصر والسودان.

الخضوع

والأخطر، أن بعض هذه الأنظمة (تردفها الصهيونية في إسرائيل)، تتصارع في لبنان وحوله. تتناهشه، تتآكله، تنتهكه، تُعدم روحه: كان بكل بساطة زمن القتلة. لكن أيضاً زمن الخضوع. والخضوع باب من أبواب الخوف. فالنظام السوري «أخضع» شعبه بالقتل والقمع والإبادة (مجازر 1982). زمن القتلة هو زمن فرض القبول بالواقع المفروض: زمن القبول باليأس. زمن استشراس الطغاة.. بأهوائهم وأطماعهم وفسادهم.

أين يبدأ البحار؟

فأين يُجذف هذا البحّار المجازف؟ كيف له أن يبدأ، ومتى؟ وكيف يمكن مواجهة زمن يكاد يكون كله، بقِدَمِه واهترائه، محكوماً بظواهر العنف والغلبة والجنون، والاستسلام، والخنوع؟ لبنان ليس للبنان. ولا للبنانيين. ولا لِعَلمِه. ولا لحدوده. صادروه. نعم! لبنان صادروه. نعم! لبنان بلا استقلال. بلا سيادة. نعم! شعبه محذوف من كل الخريطة. وكله تحت سلطة الاضطهاد السورية (مع الإيرانية)، ماذا يفعل رجل لا يمتهن العنف، عندما يُحاصَر بالعنف. كيف يستمر رجل بالمشي عكس تيار! كأن الطرقات الموصدة، أقوى من كل الأقفال. إذاً، لا بد من اختيار المغالبة «بالسلم» (السلم المنفي والهش)؛ لا بد من التحايل على الموصود. وكان له، أن يخترق نقطة نقطة لينفذ إلى ما يمكنه من «تسريب» أحلامه (الكبرى)، أو تهريبها إلى الناس. لا بميليشيا. ولا بقوة أجنبية. ولا بمزيد من شق الصفوف المنشقة أصلاً. الإنماء. نعم! وكيف يكون للإنماء أن يُنَمّي، وسط المطامع، ومحترفي لغة التخريب، أف! وكيف له، أن يبلغ من مبالغه، سوى الإصرار الهادئ (الذين ظنّه بعض التّفَهة استسلاماً أو تواطؤاً)، والمبادرات المكررة: بيروت مدمرة. المهجرون مئات ألوف. الجبل شبه مهجور. الفقر أحزمة متوالية. السلامة أضمن من الكلام. وكان له أن يدفع بلغة جديدة نسيها لبنان: الإنماء. العمران. إعادة البناء. استرجاع الجمال. استجذاب الناس. ومن كان يفكر بهذه الأمور كأنما يحلم في ليلة صيف. وكان له، وبالإصرار الهادئ (لكن العارف)، أن يكون البناء جسوراً بين الناس. بين الجغرافيات المبتورة. بين الدماء المعلنة. بين الوصاية المشككة، والمتربصة. فالإنماء، في عمقه، نقيض من نقائض تلك الوصاية. فلتطمئن إذاً. كأنه إنماء وحسب. وكان الوسط: تحفة من الجماليات الحديثة (إرثه المفضل). وكان المطار رابطاً لبنان بالعالم، ورابطاً اللبنانيين بهواجس العودة والانفتاح، لا الهجرة. وكان المطار واسعاً. جميلاً. بمعمارية تعبّر عن حداثة جديدة. إنها الحداثة المتمازجة بالتاريخ، وبالإرث، ترتفع في مدينة لم يعد فيها لا حداثة، ولا إرث، ولا إنسانية. إنها الحداثة. ولكن من قال أن الحداثة المعمارية، الشيّقة، لا تحمل في أشكالها، وخطوطها، وتلاوينها، حداثة الملتقى الحضاري. فالحداثة حضارة. هكذا فهمها الحريري. وحاولوا تشويه «رؤياه»، باتهامه بالخروج على «الأصول»، فهم رواد حداثة التدمير التي احترفتها الأنظمة والأحزاب والميليشيات القديمة، المتقادمة في شيخوخة مخيلاتها، المحكومة بأزمنة التفريغ، والماضي وحروبه وتواريخه. حداثة رفيق الحريري، هي العقل المدني الذي يجب أن يحل محل العنف، واللامدنية. إنها براعم «المجتمع المدني» تُعرّش على حيطان الإعمار، والمطار، وبيروت، والمدينة الرياضية. والمجتمع المدني، طرقه ليست واحدة: فهو كالثقافة: كل الطرق مجازة له. وهنا، كان للرفيق أن يبني الجامعة الوطنية الواحدة (كانت من أجندة نضال الحركة الطالبية في السبعينات). وهذا ليس جديده: فبدلاً من تخريج الميليشيات، والعنف، والجيوش المذهبية، خَرّج عشرات الألوف من المتخصصين بمنح غير مشروطة سوى بالانضمام إلى لغة حداثية أخرى، إلى لغة علمية أخرى (غير خرافات شعائر الحروب)، إلى لغة المدينة العصرية، أي إلى أواصر المجتمع المدني، بل إلى جذور الطالع الديموقراطي، والتعددي، والإيمان بالآخر، والمساواة... «العِلم» المتفتح في لبنان، والتعددي بدأ ينهض مع مشروع الحريري، قبل وصوله، وها هو يربط «جيش المتخرجين» من أهم جامعات العالم، وبين الجامعة اللبنانية الوطنية (التي حاصرتها الجامعات الفئوية المستنبتة هنا وهناك)، وصولاً إلى المدارس الرسمية، الثانوية، والابتدائية، المعطوبة بفعل الحروب.

اخترق الحريري كل هذه المجالات، بذلك الحس المدني الوطني التعليمي الثقافي الإعماري المترابط. لا معرفة من دون كل هذه العناصر. لا حداثة. ولا انتماء أيضاً. فالانتماء مسألة معرفية مدنية. وثقافية أولاً وأخيراً، وليس لهذا الانتماء أن يتبلور، بمعزل عن شمولياته المناطقية: وكان لإعادة المهجرين (نتذكر لصوصية بعض الميليشيات بالمتاجرة بهذه القضية)، الأثر البالغ في تعميم مشاعر الانتماء الوحدوي المتجذر. لكن هذا الانتماء إلى مكونات الوطن وكيانه، ووجوده، لا بد أن ينتقل إلى ما يجذره، ويمنحه «المعنى» الوطني، المكنون، الخاوي، النائي، الخجول، الخائف. فما جدوى كل هذا الإنماء، والجماليات، والعمران، إذا لم تكن مشفوعة بذلك الرابط الجوهري بالبلد، أي بلبنان. فما معنى عودة المهجرين إذا لم يوقظ فيهم جوهر لبنان الواحد؟ وما معنى بناء مدينة للجميع، إذا لم يوقظ فيهم معنى المركزية المدينية الواحدة. وما جدوى كل هذه المشاريع إذا لم تخترق واقع الجمهورية، بأبعادها الديموقراطية، وصولاً إلى السيادية. والسيادية تتمرد على إرث الانتماء المذهبي، والتقسيم، والحدود المستباحة، والوصايات المتعاقبة. فكيف لجمهورية أن تكون سيادية إذا كان الانتماء للوصايات أقوى من الانتماء إليها. ويقصد الجمهورية، اللبنانية، المستقلة، الحرة. لم يكن ذلك بسر مكشوف. بل عليك أن تنبشه وراء الاعمار، والكلمات، والسلوك. إنها المواجهة الاولى المدنية غير المعلنة مع الوصاية السورية. وكان الشهيد الحريري يعرف جيداً أن ما هو مكتوم وراء العمران والإنماء سيكتشف من قبل الوصايات. هنا المسألة الكبرى. فالإنجازات التي تحققت كانت جزءاً من استراتيجية وليس مجرد غاية بنفسها. فالعمران لم يُحقّق لكي تبقى الجمهورية بلا جمهورية. والسيادة بلا سيادة. وإلا كان كل شيء تبريراً لهذا الواقع الطاغي. وتجميلاً له. إذاً، فليرتبط كل ذلك بالمشروع السياسي: الإعمار سياسة، والسياسة إعمار، والديموقراطية حماية لكل ذلك. رائع! لكن السياسة، بأشكالها التغييرية لا يمكن أن تتم كاملة وسط هذه الحصارات الطغيانية. عرف الحريري، أن الصراع السياسي مفقود في لبنان منذ نصف قرن. وعرف أن استعادة هذا الصراع يعني محاولة استعادة العناصر التعددية، والفكرية، والثقافية، أي مكوّنات الجمهورية. وإزاء الموانع، وكانت الوصاية شرعت بالإحساس بخطورة مشروع الحريري، ومضامينه، وخلفياته، وأفلتت مرتزقتها وإعلامييها، ومخابراتها، وعملاءها، وقضاءها، وأمنها، وأجهزتها الميليشياوية، لتسفيه مشروعه، لتكال له الاتهامات، وتصاغ المقالات والكتب «السوداء» لتبيانه في مواقع الاعداء... وإسرائيل!

المشروع

إذاً انقشعت كل الغيوم، وظهرت السياسة: إن مشروعه السياسي على غير قواعد السياسات المسلحة، والتطرف، والعنف، والتدمير (هددوه بإحراق وسط المدينة ليمحوا أثر المدينة المدنية)، وكان له الملجأ الأكبر، الناس! هؤلاء الذين تمكن (مع بعض الأحزاب المعارضة للوصاية) من تحريك آمالهم بالتغيير، وبالعودة إلى الجمهورية، لم يخيبوا آماله. فإذا كان رفيق الحريري «اجترح» معجزة البناء والعمران، فلكي يصل إلى اللبنانيين، ليشاركوه في معركته الأساسية المقبلة: الديموقراطية، المدنية، الجمهورية، السيادة: وهذه جميعاً حزمة واحدة! هنا بالذات. كأنما انقطع كل تقاطع بينه وبين أهل الوصايات. فلتكن الانتخابات قالها. وسنخوضها في كل لبنان. وهي المفصل الأول والأخير لاختبار الاختيارات الكبرى (صناديق الاقتراع كانت إما مصادرة أو مزورة أو مفقودة). فلتكن الانتخابات، وهي مرصد الإرادات الشعبية الحقيقية، واكتسح كل المناطق. بيروت شغفه الأكبر عرفته وكانت وفية. وباكراً حضنته. وحضنته طرابلس وصيدا والبقاع. ها هو رجل الإعمار، والحداثة، والتعددية، يخرب أصول اللعبة السائدة. ها هو مجترح «المدينة» الحديثة بشفافياتها وبواباتها المفتوحة، يفتتح وطناً، رمت الوصايات والاحتلالات مفاتيحه. ومن قال إن لكل المدن مفاتيح. وهنا بالذات كان له أن يكون الأفعل والأقوى. وهنا، أعيد إلى البرلمان ما يجعله برلماناً. لكن، تمادت عينُ الشر برصده. أف! كيف يُحجّم هذا العملاق الطالع من الناس؟ وكما اجتازت رؤياه الإعمارية، وعقله «الحداثي» المدني، لبنان... سابَقَه الشعب المستنفر والناهض، من كل الجهات، إلى مقاصده. لكن، كل الذين أرادوا إبقاء الشعب شعوباً، والمناطق الواحدة كانتونات، وثقافة الحداثة عنفاً، والديموقراطية اعتسافاً... اهتزت عقائرهم. إنه «العدو«! ليس في الداخل فقط، بل في الخارج: فلبنان الذين أرادوه قرية محاصرة، وإقليماً مهشماً، وخبراً «سابقاً»، ها هو ملء العالم، بدولة الرئيس رفيق الحريري. قامته اخترقت المقامات العالمية، والمحافل، والدول: صار أقوى من «أعدائه». بل صار الصدمة الأولى لمشاريعهم التدميرية والتخريبية المعلنة وغير المعلنة، مشاريعهم الوافدة من بلاد إيران، عبر البوابة السورية. صار المانع. صار القلعة، التي تصدّ ما انكشف من أطماعهم في لبنان: كأن لم تعد إسرائيل واحدة... بل أكثر! قالوا: بات لا يُحتمل. فلا التحجيم نجح. ولا التهديد السافر والمبطن. ولا التخوين. ولا التشويه. ولا عُهر الصحافة المرتزقة. هكذا قامة تخترق كل الموانع. لا سياسة معه. لا قبول. وكان لأهل الكهوف، والأقبية، والغرف المظلمة، والنفوس القذرة، والأيدي الملطخة بالدم أن تقرر: المقتلة. تفتقت «الفكرة» في إيران، ومرت بدمشق، ونفذت في بيروت: المكان الأحب، المكان الذي يحضن آياته، وعمرانه، وجمالياته!

وكان 14 شباط الخؤون، الجاحد، اللحظة الفاصلة بين زمنين. وكانت المقتلة الكبرى، في تلك الظهيرة البائسة: صار دولة الرئيس رفيق الحريري، الرئيس الشهيد رفيق الحريري.

ظنّ القتلة أن جريمتهم ستحظى بمصير جرائمهم السابقة. مقتلة من دون قتلة. كما سبق وحصل مع الشهداء كمال جنبلاط والشيخ حسن خالد، ورياض طه، وسليم اللوزي، ورينه معوض... لكنهم خسئوا! فالرئيس الحريري لم يخلّف أطلالاً بعده. ولا شعباً يتيماً، ولا خضوعاً صاغراً: الدم فجّر الثورة. حطموا كل الحواجز النفسية، والتاريخية والمذهبية والفكرية، وحرروا الشوارع، والمدن... وملأوها! من المقتلة: إلى القيامة. من 14 شباط الخؤون إلى 14 آذار الأرز ولبنان... الملايين المكبوتة تفجّرت كمئات فصول الخضرة: الربيع اللبناني، ربيع بيروت، ربيع الحرية، تفتق، وها هي الوصاية السورية، تسحب جيشها من لبنان. لبنان بلا وصاية سورية. لبنان بلا آل الأسد...

زمن جديد. نعم! زمن رفيق الحريري، يستكمل بـ14 آذار، وبابنه سعد الذي استرشد مبادئ والده ونهجه، ونضاله واعتداله وسلميته، وبالأحزاب والجموع، والطلاب! الربيع اللبناني، سينتقل كالعدوى إلى الجوار والأبعد: وها هو في تونس، وفي مصر، وفي ليبيا، واليمن، وفي سوريا. الجموع اختارت الانتفاض على جلاديها، ومحتليها، وسفاحيها. جنون الحرية... العالم العربي يغير «جلده»، يحفر دروب التحولات الكبرى، بما رفعه الحريري: السيادة، السّلم، المجتمع المدني، التعددية، الانتخابات الحرة، إرادة الناس.

لكن، وكما اجتمع كثير من الجهات لإجهاض ثورة الأرز، وتحويل مساراتها، وأهدافها، ومجاميعها، فها هم، يتآمرون على الربيع العربي، بتحويل سلميته، وجماهيريته، وشموليته، وتعابيره الديموقراطية، إلى حروب مسلّحة مدمرة، وإلى صراعات مذهبية! ها هي سوريا بلا نظام. واليمن بلا نظام. وكذلك ليبيا...

كل العالم اجتمع، وعلى رأسه أوباما لوأد الثورة الديموقراطية العربية! كل العالم اجتمع على هذا التاريخ العربي الجديد.

لكن بعد عشر سنوات من المقتلة الكبرى، لم يستطع أعداء الحداثة والسيادة أن ينالوا من أثر الرفيق الشهيد، ولا من حضوره، وعجزوا عن إطفاء شعلته الحية في المدن والمناطق والنفوس.

ذلك أن الأفكار الكبرى، خصوصاً ما يتعلق بالحرية، والاستقلال، والسيادة، والعمران... والقيم الإنسانية، يموت رجالها، ولا يموتون، ذلك أن هذه الأفكار كالأشباح تحوم مع أصحابها في كل حلم، وتجوب كل درب، وكل فصل.

رفيق الحريري مثل هذه الأشباح الحية.

والأشباح كالأفكار الكبرى، لا تشيخ، ولا تبور، ولا تموت!

تلفتوا حولكم، وتروها بأعينكم. وتتحسسوها بأيديكم. وتتنفسوها برئاتكم. وسترود في أحلامكم ويقظاتكم!

إنه رفيق الحريري القادم من كل الجهات!

إنه العائد!
&