محمد الرميحي

منذ أسابيع بعدما تم اغتيال عدد من صحافيي مجلة «شارلي إيبدو» الفرنسية، انتشرت في فضاء التواصل الاجتماعي العربي قصة تناقلت على نطاق واسع، تقول، إن حادثة اعتداء مشابه على مقدسات المسلمين تمت في القرن التاسع عشر، وفي فرنسا، وغضب وقتها المسلمون، كما غضبوا عند نشر الكاريكاتير في تلك المجلة، وقتها لبس السلطان العثماني في إسطنبول ملابس الحرب، وأمر بتجهيز حملة عسكرية لتأديب فرنسا، وعلم القنصل الفرنسي بهذا الخبر الصاعق، فأبرق إلى حكومته التي بادرت بالاعتذار عما كُتب!
هذه القصة التي تميل إلى السذاجة صدّقها كثيرون وتداولوها بكثافة على وسائل الاتصال الاجتماعي، وظهر أن إقناع البعض بأنها نسج من خيالات عملية صعبة يميل الحكيم إلى أن يتجنب الخوض فيها. وكغيرها من القصص التي تنشر على وسائل الاتصال رسخت في أذهان كثيرين.


المغزى المبطّن لتلك القصة أنه لو كانت لدينا «خلافة» لما تجرّأ أحد على المساس بمقدساتنا، ولا يخفى على المُتبصر من يحمل فكرة «الخلافة»! إنها متاجرة بالأحداث لغايات سياسية، تستخدم وسائل الاتصال الحديثة. أزمة الإسلام الحركي وفروعه التي تولَّدت من صلبه؛ أنه لا يريد العيش في العصر الحالي، ولكنه يتعامل مع مستجداته، للتضليل والتجنيد ولإشاعة الكراهية، هذا العمل يوصف اليوم بـ«الغوغاء الذكية»!، وتشن تلك «الغوغاء الذكية» أسلحتها في الوقت الحالي على بعض القيادات العربية البارزة، حيث تعجّ وسائل الاتصال بحكايات وقصص وأوهام عنهم، تقع على ذهن المتلقي، وخصوصا ذلك الذي أصبحت مناعته الفكرية معدومة، فيصدقها، في محاولة لما يعرف اليوم بـ«قتل الشخصية أو تشويهها». المُتلقي إن كان يصدق التشويهات الاجتماعية والتجارية، فلمَ لا يصدق بالمرة التشويهات سياسية أيضا؟!
منذ الانقلاب من التكنولوجيا التناظرية، إلى التكنولوجيا الرقمية، والأجهزة الذكية تتوالد كالفطر، مثلها مثل أي إنتاج تقني، يمكن أن تستخدم في مساعدة الإنسان على حل مشكلاته، ويمكن أن تستخدم لتدمير المجتمع؛ الأخير ينطبق عليه القول إن الفكرة الجيدة إذا دخلت عقلَ متخلفٍ تتخلَّف. الشريط السينمائي الذي عرض قبل أيام لعملية اغتيال بشعة للطيار الأردني الشهيد معاذ الكساسبة تتماثل مع تقنيات الشريط الذي أنتجته «داعش ليبيا» لاغتيال بشع آخر، بل مجزرة لواحد وعشرين شخصا منهم عشرون مواطنا مصريا، ليس لهم ذنب غير بحثهم عن لقمة العيش، وحظهم العثر أوقعهم في أيدي تلك العصابة.


هل يمكن لأحد منا أن يحدد جذور الإرهاب؟ العملية ليست سهلة، والإجابة فيها مغامرة! شخصيا أرى أن أحد جذور الإرهاب هو «الجهل» أو «التجهيل»، كلاهما يقود إلى إرهاب من نوع ما، في هذا الفضاء الجديد الذي يسمى الفضاء الرقمي. يغري البعض للانضمام إلى الجماعات الإرهابية في صحراء سوريا والعراق وليبيا، بعد أن تُحشى أدمغتهم بأفكار ليس لها علاقة بالعصر أو حتى الإنسانية، من خلال تلك الوسائل ينتقل الشخص منهم من روابط «ضعيفة» افتراضية، إلى روابط وثيقة يشبع من خلالها حاجة نفسية مع أمثاله، ويحمل السلاح، لا يعرف بعدها ما إذا كان ضحية أم قاتلا. يدفع مثل هؤلاء إلى أتون التشدد ما تقوم به ميليشيات تابعة إلى إيران تتفاخر في التدخل في اليمن والعراق وسوريا لقتل الآخر، فتزيد من عوامل الدفع إلى التشدد في الطرف الآخر.


لقد بدأت التكنولوجيا الجديدة توخزنا في خواصرنا، وهجمت علينا في الوقت والزمان الذي لم نستعد له. لقد أضعفت قدرة الدولة على تحديد أجندة الرأي العام، ولم تفطن الدولة - حتى الآن - أننا في عصر «تويتر»، الذي يستوجب تكوُّن جيشٍ مضادٍ من نفس الجنس! في الوقت الذي استمر فيه حشو أدمغة طلابنا، بـ«الحفظ والتسميع» وعطّلنا ملكة منحها الله لكل إنسان، وهي القدرة على التفكير الممنهج والعلمي، فتهيأ الأمر من جوانب عدة للإصابة بهذا الوباء، الذي يفوق ضرره السياسي على كل من الضررين الاجتماعي والثقافي، وكلاهما شبه قاتل.


كقاعدة عامة حتى الآن، لم نقم بقياس علمي حول مدى التأثير الهائل لهذه التكنولوجيا على مجتمعاتنا، البعض ذهب لمقاومة هذه الظاهرة بما تعوَّد عليه، وهو الحل «الأمني» في المنع والمتابعة والحَجْر، وهي أدوات لا تناسب العصر، تتفوق عليها التقنية الحديثة ببساطة وسهولة.


تُبثُّ من حولنا ألف قناة وقناة، لم يبقَ شعب أو ثقافة، إلا وأصبح لها أكثر من قناة ووسيلة اتصال اجتماعي تتزاحم على فضائنا العربي، تسمم الأجواء المعرفية. هل سأل أحد منا نفسه: لماذا حكومات مثل روسيا وفرنسا وبريطانيا وتركيا والصين، بل وحتى إيران، تُبثُّ باللغة العربية، والأخيرة لها أكثر من محطة فضائية؟ كل تلك القنوات لها أذرع في إطار الاتصال الاجتماعي، وكلها موجهة إلى العقل العربي الذي فك الخط، ولم يفك ويحرر ملكة التفكير، في الوقت الذي نشهد فيه التطور الهائل لاستخدام التقنية الحديثة ورخص أجهزتها وتنوع استخدامها، فأجهزة الهاتف يمكنها اليوم التقاط الصور وتوزيعها، وتشغيل الموسيقى، وممارسة الألعاب المختلفة، والتواصل بين الجماعات وإطلاق الشائعات، إلا أن كل ذلك لم يدفع جامعاتنا، ولا مراكز البحث للنظر في الآثار السلبية على مجتمعاتنا، بسبب تقدم واستخدام هذه التقنية. لم يعد مفهوم «المجتمعات»، ولأول مرة في التاريخ، هي التي تعيش في حيز معين من الأرض، أصبحت هناك مجتمعات افتراضية، تنقل الأفراد من إحساسهم بالمجتمع المكاني حولهم، إلى مجتمع افتراضي، وتعمق الإحساس بالانتماء لذلك المجتمع. عضوية ذلك المجتمع الافتراضي يحول البعض إلى حيوانات ليس لديهم أي رادع في ارتكاب الموبقات، ومنها القتل بدم بارد. لقد خفضت التكنولوجيا الرقمية الجديدة من العلاقات الاجتماعية المباشرة مع الآخرين، سواء في الأسرة أو المجتمع، وأعلت العلاقات الافتراضية، كما أسقطت كل الحواجز، حقيقية أو متخيلة. لقد أتقنت القوى الإرهابية استخدام هذه الوسائل كفاءة نسبية بأكثر مما أتقنتها المجتمعات المنظمة. إن أول ما يُستهدف هو عقل الإنسان، ودون رادع أخلاقي، تزين القبيح وتحلل المحرم، وتدفع بالشباب إلى المغامرة، لقد أنتجت وسائل الاتصال الاجتماعي بن ظهرانينا الجماعات الشرسة، ساعدتها بيئة سياسية مريضة، وما زلنا في أول الطريق!

آخر الكلام
مبكرا في عام 2010 (21 يناير/ كانون الثاني) أعلنت وزيرة الخارجية الأميركية، هيلاري كلينتون، رفع مستوى «جريدة الإنترنت»، إلى مستوى محوري في السياسة الخارجية الأميركية! أي الاعتماد على مضامينها كمصدر لرسم السياسات!!