حسن حنفي

لا أحد يشكك في قيمة السلام، وقد أخذنا بالسلام ما لم نأخذه بالحرب، وما خسرناه بالحرب كسبناه بالسلام. فالحرب طريق مسدود يؤدي إلى مزيد من الخسائر في حين أن السلام طريق مضمون يؤدي إلى كثير من المكاسب. و‬الحروب هي ‬السبب ‬في ‬الأزمات ‬الاقتصادية ‬والجوع ‬بالضرورة ‬في ‬حين ‬أن ‬السلام ‬يجلب ‬الرخاء، ‬والحرب ‬دمار ‬وقتل ‬ويُتم ‬وترمُّل، ‬والسلام ‬حمامة ‬وغصن ‬زيتون وحياة ‬وحب ‬وتعايش ‬وإخاء. ‬و‬الحرب ‬همجية ‬ووحشية ‬في ‬حين ‬أن ‬السلام ‬تحضّر ‬ومدنيّة.

&

وكل هذا صحيح، لا مراء فيه. ولكن ليس الغرض المنشود أن تضيع منا روح النضال، وتخمد فينا روح المقاومة، وتضيع منا إرادة الصمود، وتنتهي الشعوب المحتلة إلى الاستسلام لهزائمها، وتفرض عليها سياسة الأمر الواقع التي طالما حاول الاستعمار فرضها على الشعوب حتى لا تتحرك وتأخذ مصائرها بأيديها من جديد. في حين أن هزائم الشعوب قد ولّدت فيها روح النضال، وقوّت فيها روح المقاومة الثقافية والحضارية، فيتحول العدو الخارجي إلى تحدٍّ حضاري. وقد حدث ذلك في تاريخ وثقافة بني إسرائيل قديمًا بعد الأسر البابلي. فما كان من كتابها وشعرائها ومفكريها ورُواتها إلا أن حفظوا روح الأمة وتراثها رمزاً لمقاومتها وعدم اندثارها وسجلوه مع ما سمي فيما بعد العهد القديم «تناخ». وحدث ذلك أيضاً عندنا نحن إثر هجمات التتار وغزوات المغول فحفظت الأمة تراثها في الموسوعات الضخمة التي ورثناها من العصر المملوكي، عصر الشروح والملخصات، وكنا إلى عهد قريب ونحن في قمة الهزيمة قد عبّرنا أيضاً عن روح الصمود باللاءات الثلاث «لا صلح، ولا مفاوضات، ولا اعتراف» التي أصبحت الآن موضوع سخرية أو استهزاء لدى البعض!

إن هدف الأعداء هو هزيمة روح الأمة، وكسر شوكتها، وضياع كرامتها، وإهانة شعوبها، وركوب قلبها، والنزول إلى أحياء الحسين والأزهر من تل أبيب للشراء من خان الخليلي، قلب الأمة وحافظ تراثها، وكأننا أصبحنا متحفاً وذكريات يحملها السائح الأوروبي الجديد معه، والزوار الجدد للأهرامات.

وطالما ذكر عبدالناصر من قبل ما قاله أللنبي، قائد الجيوش البريطانية إلى القدس: «اليوم انتهت الحروب الصليبية»، أو ما قاله القائد الفرنسي «غورو» في دمشق أمام قبر صلاح الدين: «ها قد عدنا يا صلاح الدين»! والآن يقول الصهاينة «ها قد عدنا». ولا عجب أن يهدى إلينا «دلالة الحائرين» لموسى بن ميمون ونحن نفرح به دون أن نعي المقصود به. والمقصود لدى الصهاينة: كانت حضارتنا نحن اليهود في عقر داركم وإليها ستعود!

وإضافة إلى روح المقاومة والنضال السلمي، والثقافي الحضاري، قد تسلك الشعوب كي تأخذ حقوقها أيضاً أسلوب الأخذ والعطاء وطريق التجارة، دون أن يعني ذلك هجران روح المبادئ التي لا يمكن التنازل عنها أو المساومة عليها، حتى لا تضيع من الشعوب عناصرها التاريخية الثابتة، في حين استطاعت المقاومة الثقافية أصلاً عن طريق الثبات على مبادئها. وقد استطاعت الصهيونية أن تحصل على ما تريد، بغير وجه حق، عن طريق التشبث بأهدافها وعدم التنازل درجة واحدة عن متطلبات أمنها المزعوم.

وقد انتصرت رسالات الأديان في التاريخ أيضاً عن طريق عدم التنازل عن الحق‬. ‬و‬اتصفت ‬جميع ‬الثورات ‬الكبرى ‬في ‬التاريخ ‬بالجذرية في المطالبة بالحق المشروع، ‬وإلا ‬تحولت ‬الشعوب ‬إلى ‬أقليات ‬تستجدي ‬حقوقها ‬وتصبح ‬مهددة ‬بالقمع ‬أو ‬الاستئصال من قبل المحتلين.

وحينئذ قد تبدأ الشعوب في المساومة على حياتها من موقف الضعيف أمام القوي، وقد تستعمل أسلوب الاستجداء العاجز، واستثارة نخوة الغالب وإنسانيته وعدالته. وتستمر في الاستجداء حتى يأنف منها الأصدقاء ويزداد احتقار الأعداء لها على رغم مظاهر الترحيب وعبارات المجاملات ويرمون لها بالفتات الذي تفرح به، وتعتبره انتصاراً لها واسترداداً للعزة والقومية. تستنصر القوى الكبرى، والشعوب المحبة للسلام، ولكن الأولى لا تعرف إلا لغة القوة، والثانية لا تملك من القوة شيئاً، وقوّتها معنوية أكثر منها فعلية. وفي الواقع السياسي لا يتغير شيء إلا بالقوة الفعلية والنضال والإنجاز الحضاري. وقد حذر من قبل «محمد إقبال» من أسلوب الشحاذة والشكاية والاستجداء، وخطورته على حياة الأفراد والشعوب. وسماه «فلسفة السؤال»!
&