&أحمد جابر

& كتاب غريغوري د. جونسن «اليمن والقاعدة – الحرب الأميركية في جزيرة العرب»، (دار جداول للنشر - 2015) يتناول «القاعدة»، الذي كان جهاداً في أفغانستان ضد الوجود السوفياتي فيها، وبين ما بعد أفغانستان، مع انتقال الدمار الأفغاني الثابت إلى البلاد العربية، في شكل موجة عنف وتفجيرات متنقلة، وجد أفضل قواعده في اليمن، ويجد الآن أسوأ تصرفاته وانبعاثاته في كل من العراق وسورية وليبيا، ولا تنجو منه مصر الدولة الأكثر رسوخاً في تاريخ المنطقة العربية.

يسرد جونسن حكايته بسلاسة، حاشداً أسماء الأشخاص والأماكن والتنظيمات، ومعدداً الأهداف، ويمر عرضاً على السياسات لكأنه يكتفي بتقديم ما لديه، تاركاً للقارئ المتابع الوصول إلى الخلاصات الملائمة، وهو، أي الكاتب، عندما يسمي سياسة ما باسمها المعتمد في بلادها، فإنما يفعل ذلك سريعاً، من دون توقف أمام خلفيات تلك السياسة، أو الموازين التي جعلت خيارها مفضلاً لدى صانع القرار الرسمي. لكن التسمية السياسية التي يعتمدها الكاتب، لا تمر بداهة في خيال القارئ، وإنما تحثه على التدقيق فيها، ولا تتركه إلا بعد أن يكون قد توصل إلى تكوين انطباع عنها، يتراوح بين رفضها أو قبولها، لكن قليلاً ما يكون الانطباع على الحياد.

على خطى الدعوة الجهادية، يعود غريغوري جونسن إلى البداية الأفغانية. من أفغانستان وفيها، تشابكت العلاقات والمصالح، وفوق أرضها نبتت المشاريع والطموحات. هناك كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها من عرب وباكستانيين، وهناك كانت جموع المتطوعين الذين حفزتهم بلادهم على الذهاب، في استجابة مزدوجة: تنفيذ عقد الشراكة والتحالف مع الأميركيين ضد القوات السوفياتية التي احتلت أفغانستان، وترحيل الأزمات والتساؤلات الداخلية إلى خارج ديار أكثر من دولة عربية. تظهر وقائع الكتاب بما لا يدع مجالاً للارتياب، حقيقة الجهود التي بذلت من أجل جمع المتطوعين وإيصالهم إلى باكستان فأفغانستان، مثلما أعطت الأرقام المالية الخيالية، صورة عن «التوظيف الجهادي» والسياسي، الذي نفذ فوق الأرض الأفغانية على مدى سنوات.

صدرت فتاوى تحض الشباب على القتال في أرض الجهاد، وتولى خطباء جوامع نشر الحماسة، وتبيان محاسن القتال إلى جانب المسلمين المستهدفين من قوات الإلحاد وضروراته، ولم يعدم رجال الدين دعماً من حكوماتهم، وهم لم يقصروا في استحضار النصوص القرآنية وشرحها وتأويلها، أو في عرض محطات من مسيرة الرسول، والتذكير بجملة من أحاديثه، كل ذلك لجعل الجهاد في أفغانستان هدفاً للمسلمين التواقين إلى نصرة دينهم، والإعلاء من شأن القائمين بأعباء هذه النصرة.

كان أسامة بن لادن بطلاً، وكيلت له المدائح، عندما كان فوق الأرض الأفغانية، لكن أسامة ومعه رهط من رفاقه، سيصير «شيطاناً»، بعد جلاء السوفيات عن أفغانستان وبعد تهاوي نظرية استنهاض العالم الإسلامي، بعد النصر الجهادي الواضح، وستتدحرج كرة «الشيطنة» لتصير كرة ملتهبة، بعد الهجوم الذي تعرضت له أميركا في 11 أيلول (سبتمبر) 2001. لقد هوى البرجان ومعهما هوت كل الأحلام الأفغانية، وفي سياقها وكنتيجة لها، انبعثت وتجسدت الكوابيس العربية.

حاولت «السياحة الجهادية»، التي باتت «إرهابية» بعد أفغانستان، أن تثبت أقدامها كخطة وكمشروع في البلاد الإسلامية، وتوسلت لذلك مهاجمة السفارات الأميركية واستهداف سفن حربية وناقلات نفط، ولم تتورع عن تنفيذ عمليات اغتيال، كان أبرزها محاولة استهداف الرئيس المصري السابق، حسني مبارك، لكن الفشل لازم كل تلك السياسات، وبعد أن بدا أن تنظيم «القاعدة» في طريقه إلى الاندثار، خصوصاً بعد مقتل قائده أسامة بن لادن في باكستان، كانت بدايات إعادة التأسيس تظهر في اليمن، ذلك البلد الذي سيكون بيئة ملائمة للجهاديين ذوي الأصول اليمنية، وأولئك الوافدين من دول الخليج القريبة، أو من مصر المضطربة حديثاً، أو من الصومال المفككة الأوصال.

لم يكن اليمن في لائحة السياسات الأميركية، إلا عندما استفحل أمر «القاعدة»، وأفلت عقال ضرباته. لقد خالف الرئيس اليمني علي عبدالله صالح قليلاً، أيام غزو العراق الكويت، وحاول التميز قائلاً بحل عربي، ولوهلة تخيل أنه قادر على لعب دور عرّاب الصلح بين صدام حسين وجورج بوش الأب، لكن بعد ضربة 11 أيلول، كان على الرئيس اليمني أن يختار. لقد انتهى زمن السماح الأميركي، وبوش الابن وضع معادلة إما معنا أو ضدنا. هذه السياسة الأميركية، يعرضها الكاتب جونسن على ألسنة السفراء المعتمدين في اليمن، مثلما يعرضها في ممارسات المسؤولين العسكريين الأميركيين وفي طلباتهم، ويراها بأم العين خسائر ناجمة عن ضربات طائرات «بريديتور» من دون طيار، التي كثيراً ما أخطأت أهدافها. فالصاروخ الذي قصف قرية المعجلة جنوب أبين، كانت وجهته المفترضة معسكر تدريب لـ «القاعدة»، وبدل رجال «الجهاد» قتل ماشية وعائلات.

من بين سائر المسؤولين الأميركيين، ربما كان السفير الأميركي في صنعاء، إدموند هول، هو الذي لاحظ الحاجة إلى ضرورة الوجود الحكومي في المناطق الفقيرة المهملة، وقد تبرع ببناء مستشفى عندما أخذه الشيخ ربيش، القائد القبلي، وأشار إلى بيت الطين «المستشفى»، قائلاً: هذا ما تحتاج إليه المنطقة. ما سوى ذلك، كانت السياسة الأميركية عبارة عن عصا وجزرة، وعن تقديم مساعدات أو حجبها، وعن تحديد المواصفات والشروط المطلوبة للإفراج عن هذه المساعدات. هذا ما كان عليه الأمر، عندما جرى ترشيح اليمن للقبول ضمن «تحدي الألفية»، وما جرى عندما طلب من الرئيس اليمني، التعاون ضد الإرهاب، فلما أبدى مراوغة وتململاً، أو توقف عند حساباته السياسية الخاصة، توقفت المساعدات والإعانات.

الرئيس اليمني، الذي قال الأميركيون أن لا رهان على غيره كرئيس، كان رجلاً محيراً لحلفائه، وكان في الوقت ذاته متراقصاً في سياساته مع أبناء بلده، ومتلاعباً بهم، هو الذي قال متهكماً أنه يمارس الرقص على رؤوس الأفاعي، في وصفه لسياسات تأليب القوى وأصحاب النفوذ بعضهم على بعضهم الآخر. أميركياً، قيل في الرئيس اليمني، أنه يرمي حاراً وبارداً، وهناك علي صالح في السر وآخر في العلن، ثم تساءلوا: هل هناك علي صالح حقيقي؟ صورة الرجل لا تُفهم إلا في السياق اليمني العام، وفي تراتبيات القبائل وعلاقات النفوذ، وفي إطار المشاكل الموروثة والمستجدة، كل ذلك جعل من علي صالح، الضابط المغمور، لكن المناور، رئيساً ناجياً في اليمن، استمرت فترة نجاته مدة 31 عاماً. حالف علي صالح القبائل، أثناء حرب الانفصال، وأعطى دوراً قيادياً لطارق الفضلي، القبلي الجنوبي المطرود بعد حكم الاشتراكيين في جنوب اليمن. كان الجهاديون أعوانه في القتال، وآزره رجال الدين، خصوصاً عبدالمجيد الزنداني وعبدالوهاب الديلمي، بالفتاوى التي أعلنت الاشتراكيين كفرة يجوز قتلهم بلا عقاب. سقط جنوب اليمن، فأعاد علي صالح قبلنة المنطقة على أنقاض المحاولة «الاشتراكية»، التي رمت إلى قيام توليفة بينها وبين الإسلام. القبائل ذاتها طلب مساعدتها عندما زحف الجيش الشمالي جنوباً، وعندما هاجم مراكز «القاعدة» لاحقاً في منطقة أبين، وعندما قامت الانتفاضات في وجهه، واتسع مداها، أرسل الرئيس الهدايا والمال والسيارات إلى شيوخ القبائل ليضمن ولاءهم... كان علي صالح منسجماً مع مسلكه القديم، فهو الذي أمّن قنوات الدعم للجهاديين في أفغانستان، وفي قصره استقبل كثيرين منهم، وبدعم المشايخ جرى التجنيد، ومن على منابر الجوامع أطلقت الدعوات لتوسيع الاستقطاب، وفي رحاب المعاهد الدينية، التي توسّعت بين الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي ليصل عددها إلى ألف معهد، نما وترعرع تيار متشدد، خرّج من بين صفوفه ستمئة ألف «تلميذ»... على أكثر من وجه، كانت البيئة اليمنية المفقرة والمهمشة وذات الأمية الواسعة، بيئة مناسبة لزرع الأفكار المتطرفة، وكان على علي صالح أن يكون رئيساً قبلياً و «مدنياً» وسياسياً... استثنائياً، في زمن غير عادي، بشقيه: السياسة الأحادية القطبية المعولمة، والجهادية «المعولمة» المتعددة القطب!

بعد زوال الحكم الاشتراكي في جنوب اليمن، أهمل الرئيس صالح حلفاء الأمس من الجهاديين، وسرعان ما ظهر أن لكل حساباته الخاصة. لقد تدفق رجال «القاعدة»، المطاردون والناجون إلى اليمن، لإعادة إحياء «القاعدة»، وكان في ظنهم أن الضربات التي أنزلت بالأميركيين ستكون شرارة لثورات في البلاد العربية، لكن ظنهم خاب، ولم يجدوا أمامهم سوى الجبال البعيدة في شبوة وأبين وفي مأرب، وفي القرى النائية عن «الحضارة»، وداخل الشقق الأمنية في صنعاء. لقد فرض طموح إعادة البناء على رجال «القاعدة» المخضرمين، القيام بأعمال تفجير واغتيالات، طاول الكثير منها ضباط أمن وسياسيين، خصوصاً من أبناء الجنوب، ولم يوفِّر السياح الأجانب من إسبان وكوريين، أو السفارات ومجمعاتها، فلم تسلم «الأميركية» ولا الإيطالية... ووصل نشاطهم إلى السعودية، حيث حاولوا اغتيال الأمير محمد بن نايف (ولي ولي العهد السعودي حالياً)، بعدما نجح في القضاء على حركتهم في السعودية، وكان كل ذلك مدعاة جهود مشتركة بين الأميركيين والسعوديين واليمنيين، تؤازرهم جهود استخبارية مصرية وباكستانية وبريطانية. جاءت النتيجة في شكل ضربة قاصمة لـ «القاعدة»، فبات رجاله بين قتيل ومطارد وسجين. لكن هذه الحال لن تكون خاتمة المشهد، بل ستبرز تحديات تواجه حكم علي عبدالله صالح، وفي سياقها سيعمد الجهاديون إلى إعادة التأسيس مجدداً.

&

... والمشكلة مع الحوثيين

جاء التحدي هذه المرة من صعدة، قريباً من الحدود السعودية، حيث المشكلة مع الحوثيين، أي مع «الفرقة الخمسية»، التي هي اجتهاد خامس غير معترف به رسمياً، ويقف عند الإمام الخامس المتحدر من سلالة الرسول.

كانت المشــكلة هـناك مزمنة، وطويلاً تجاهل علي عبد الله صالح الحركة الحوثية ورفض مقابلة زعيمها حسين الحوثي، وانتهى الأمر بحصار هذا الأخير وقتله، لكن النار التي خبت تحت الرماد، اندلعت في حرب دامت ثماني سنوات، ثم تجددت على النحو الذي أوصل الــحركة الحوثية إلى قلب صنعاء. حالياً، يشار إلى علي صالح بالرئيــس الــسابق، الذي أخرجته من الحــكم تسـوية تضــمنت تخـليه عن السلطة، في مقابل تمتعه بالحصانة وضمان عدم الملاحقة. لقد أراد الرئيس «المناور»، هيكلة السلطة والجيش والاستخبارات على شاكلة الشجرة القبلية ونجح طويلاً، لكن الهيكلة سقطت عندما تعرض القناصة للمتظاهرين في صنعاء، وأوقعوا عشرات القتلى والجرحى في صفوفهم. كان ذلك إيذاناً بانشقاق الجيش مع علي محسن الأحمر، وعدم تصديه للهجمات في أبين، تاركاً معداته وأسلحته وذخيرته. لقد سمح ذلك لقادة «القاعدة» المراقبين عن كثب بالقول: إنها الفرصة المواتية لقيام دولة إسلامية في الجنوب.

في زاوية خلفية، كان سجناء «القاعدة» يعيدون تنظيم أنفسهم في السجن. قام فواز الربيعي بالمهمة، وساعده قاسم الريمي وحمزة القعيطي، فلما غاب الربيعي، بعد عملية الهروب الكبير تحكم ناصر الوحيشي بالعمل، فاستغل الروابط القبلية والعائلية وعيَّن أمراء محليين، وجعل كل وجود أجنبي هدفاً له، وطالب بتحكيم الشريعة ووقف التعاون مع «أعداء الإسلام». لم تكن كل أعمال «القاعدة» بلا ردود فعل، بل إن بعضها أثار نقمة واسعة بين القبائل، عندما تعرضت لمدنيين يمنيين. هذا التذمر، لم تكن الحكومة اليمنية قادرة على توظيفه ضد «القاعدة»، بسبب من سوء أوضاعها، بينما خطا تنظيم «القاعدة» خطوة تنظيمية ذات مغزى فأعلن الاندماج بين فرعيها في اليمن والسعودية، ليصير الاسم الموحد «القاعدة في شبه الجزيرة العربية». جاء الإعلان على لسان سعيد الشهري وناصر الوحيشي وبات قاسم الريمي القائد العسكري الجديد للمنظمة، وقيادتها تضم عنصراً رابعاً هو محمد العوفي.

وحين صنّفت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون «القاعدة» «منظمة إرهابية». في الوقت ذاته، كان عادل العباب، كبير رجال الدين في «القاعدة» يعلن أنه تظيم ليس عدمياً، وأنه بات يحمل اسم «أنصار الشريعة»، وأن عمله لن يقتصر على الهجمات ضد الغرب، بل سيشمل أيضاً تقديم الخدمات الاجتماعية. على ذلك، تقدمت أولوية استعادة الأمن والنظام، وبناء بنى تحتية على تواضعها، وتأمين المياه والصرف الصحي والتعليم ولو اقتصر على الجوانب الدينية. وجد من بين السكان من يقول: أن «القاعدة» ملأ الفراغ الحكومي، وهو قامت بما لم تقم به الحكومة طيلة أعوام.

في اجتماع احتجاجي للقبائل، ضد أكاذيب الحكومة عن حقيقة هجماتها، خطب رجل «القاعدة»، محمد الكيلوي قائلاً: «حربنا ضد أميركا وليس ضد الجيش اليمني. قتل الأميركيون الكيلوي لاحقاً، ثم قتل فهد القصع الذي زود مدرسة القرية بالمعلمين. أميركا التي وضعت اليمن على الهامش بعد أيلول 2001 كانت تتساءل مندهشة: لماذا تحول «القاعدة» إلى ضرب أميركا فجأة، بعد أن كانت هجماته تركز على الداخل اليمني؟ والجواب عن السؤال كان على لسان رجل «القاعدة» الذي قال بعد مقتل فهد القصع: لن تنتهي هذه الحرب، والأيام المقبلة ستحمل جديداً.

كتب غريغوري د. جونسن كتابه قبل هذا الزمن اليمني. ربما على أحدهم الآن أن يكتب عمّا بعد خروج «القاعدة» من الظلال، وعما بعد تمركز الحركة الحوثية في قلب صنعاء، وعما بعد تمدد سيطرة رجال القبائل في مناطق يمنية عدة، وعما بعد تحصن «القاعدة في شبه الجزيرة العربية» في قواعد ومراكز ثابتة... على أحدهم أن يكتب عن أي يمن؟ وعن مصير اليمن؟ وفي السياق، يكتب عن سياسة الولايات المتحدة، التي ما زالت طائراتها في الفضاء اليمني، تنفذ مهماتها القديمة.

&


&