حسن بن سالم

تساؤل أثير في الآونة الأخيرة حول إمكان إعلان زعيم جبهة النصرة فك أو انفصال الجبهة عن تنظيم قاعدة الجهاد العالمي، وهذه الخطوة -حتى في حال حصولها- ليست بالأمر المفاجئ، وإنما هي تجسيد حقيقي للنهج الجديد الذي بدأ يمارسه تنظيم القاعدة في اختراق المنطقة، والذي ظهرت بوادره بالتزامن مع ما شهدته المنطقة العربية من حراك شعبي في عدد من الدول العربية.

&

ففي الوقت الذي أعلن فيه محللون كثر وفاة «القاعدة»، كان للسلفية الجهادية كلمة أخرى، إذ سرعان ما واجهت حال «إعلان الوفاة» بظاهرة ولادة أخرى، إذ عمد تنظيم القاعدة على إعادة هيكلة أولوياته وخياراته؛ وفقاً للتحولات الجديدة بالمنطقة، وتوصل إلى إستراتيجية ونهج جديد يقوم على إحداث تكيُّف مع التحولات البنيوية عبر الانتقال من «النخبوية» -التي أفقدتها الشعبية والهالة الإعلامية- إلى «الشعبوية». وضرورة إحداث عمليات اختراق في المجتمعات؛ من خلال شبكات تقوم على استراتيجيّة دمج البعد النخبوي بالشعبي والمحلي بالعالمي.

&

فكانت البداية بولادة ما سمي حركات «أنصار الشريعة»، التي انتشرت في عدد من الدول بدءاً من اليمن، وتم استغلال واستخدام مسمى الشريعة من أجل توسيع قاعدتها الشعبية كعامل جذب، وكان من تلك التطبيقات العملية لها ما عُرف باسم جبهة النصرة، التي اخترقت الثورة السورية، وظلت تعمل من غير إعلان الانتماء والولاء والتبعية للقاعدة أو تنظيم دولة داعش، الذي أسهم في نشأتها وإمدادها بالرجال والمال والكفاءات والخبرات، واستطاعت من خلال ذلك ضم المقاتلين وكسب الدعم والتأييد، إلى أن تم الكشف عن هويتها وإعلان زعيمها الجولاني الانتماء والولاء لتنظيم القاعدة العالمي، بعد خلاف طرأ على الساحة مع أبوبكر البغدادي الذي لعب دوراً كبيراً في تشكلها.

&

الخلاف بين الفصيلين تحول إلى صدام، بل إلى اقتتال شرس وكبير، أدى إلى حدوث تراجع كبير في حضور جبهة النصرة وفقدان تأثيرها وتماسكها، وتعرضت الجبهة لانهيار كبير في صفوفها الداخلية، في مقابل تمدد تنظيم البغدادي، وهو ما جعلها تعاني من أزمات متتالية، وأصبحت أمام خيارات محدودة، وحينما رأت قيادة النصرة أن مشروعها بدأ بالانهيار في مقابل تقدم التنظيم المتمرد على القاعدة؛ أفصحت وبشكل واضح عن مشروعها وأهدافها، وبدأت بالسير بشكل عملي على خطى «داعش»، فتم التبشير من الجولاني بقيام الإمارة الإسلامية، وهو ما أكدته الجبهة، في بيان توضيحي، نافية في الوقت نفسه «اقتراب» إعلانها، وبدت معالم الهيمنة والاستفراد بالسيطرة على المناطق المحررة، وشن هجمات على مواقع الكتائب الأخرى وتصفيتها أو طردها، وعملت على الشروع بتطبيق أسلوب «داعش» في الحكم والتشدد بحق السكان المدنيين، وتطبيق الأحكام والحدود الشرعية في الساحات العامة بطريقة تدب الرعب في القلوب وتستقطب المتطرفين. وفرضت الحجاب على النساء ومنعت تحركهن من دونه، إذ عمدت إلى إنزال غير المحجبات من سيارات النقل العام، وهو ما أدى إلى حدوث استياء متزايد في المناطق الخاضعة تحت سيطرتها، حتى بدأت تخرج مظاهرات واحتجاجات شعبية تندد بأعمالها، وترفض في الوقت ذاته طغيان الأسد وتطرف القاعدة، وكان ردها على تلك الاحتجاجات باعتقال المشاركين في المظاهرات المنددة بها والمطالبة بخروجها وإحالتهم إلى محاكمهم وهيئاتهم الشرعية، وفي الأيام الماضية تم قتل أمير النصرة بمدينة سلقين بريف إدلب على يد مقاتلين من فصيل آخر، رداً على الانتهاكات التي ارتكبتها «النصرة»، وكان هذا الأمير قد أعدم منذ شهر امرأتين رمياً بالرصاص بتهمة الدعارة، تلك الوقائع على الأرض بينت أن ممارساتها لا تختلف عن «داعش» إلا في بعض التفاصيل والجزئيات، وها هي من جديد تمر بمأزق في ما يتعلق ببقاء الانتماء إلى «القاعدة»، وما قد يجره ذلك من سخط شعبي واستمرار بقائها ضمن قائمة الإرهاب، أو التخلي تكتيكاً وبشكل صوري عن البعد الجهادي الأممي المرتبط بتنظيم القاعدة، ولكن تظل النزعة البراغماتية وسياسات التكيّف مع الشأن المحلي هي الدافع والمحرك للنصرة، وهو ما قد يجعلها هذه المرة تنحو إلى خيار إعلان الانفصال صورياً عن «القاعدة»؛ من أجل المحافظة على بقاء واستمرارية مشروع تنظيم القاعدة في سورية، ولكن ذلك لن ينطلي على الشعب السوري الذي أصبح يملك دراية تامة بأهدافها وبما ترتكبه بتطرفها من إجرام في حقهم.
&