يحيى الجمل
&
ليبيا التي أقصدها ليست هي ليبيا أيامنا هذه، التي تعبث فيها غربان داعش خراباً وفساداً في الأرض. ليبيا التي أقصدها هي ليبيا التي ذهبت إليها عندما كانت بلداً فيدرالياً يتكون من ولايات ثلاث، وكان يحكمها الملك محمد إدريس السنوسي.
&
في ذلك الوقت- في العقد الخامس أو بداية العقد السادس من القرن الماضي كانت ليبيا بصدد إنشاء قضاء حديث ولم يكن أمامها، شأنها في ذلك شأن أغلبية بلدان الوطن العربي غير مصر تلجأ إليها لتمد لها يد العون، وبالفعل أوفدت مصر إلى ليبيا ثلاثة من أعضاء النيابة العامة، كنت أنا أحدثهم تخرجاً وأصغرهم سناً وكان طبيعياً أن يكون من نصيبي أصغر الولايات، من حيث عدد السكان،..
&
وأقلها من حيث التحضر والتمدن. ذهب الزميل الأكبر إلى ولاية طرابلس، وذهب الزميل الذي يليه في الأقدمية إلى ولاية بنغازي، وذهبت أنا إلى ولاية فزان في قلب الصحراء الليبية. على أي حال، كان قرار تعييني رئيساً لنيابة ولاية فزان لا بد من أن تصدر به موافقة من مجلس القضاء الأعلى، ثم يصدر بتعييني مرسوم ملكي، ثم كان يجب قبل أن أباشر عملي أن أؤدي اليمين القانونية أمام الملك نفسه.
&
وانتظرت كوني شاباً لم أكن قد بلغت الخامسة والعشرين من العمر إتمام هذه الإجراءات. ولم أكن متعجلاً ذلك لأن إتمام هذه الإجراءات كان يعني أن أعود إلى فزان، وما أدراك ما فزان.
&
قحل وجدب في كل شيء! وأنا الآن في طرابلس، وفي فندق «المهاري»، حيث الحياة حافلة ومثيرة. أو هكذا بدت لي آنذاك. وكان أكثر ما في هذه الحياة من متعة وإثارة هي تلك الأمسيات، التي كنت أقضيها في ركن من أركان المهاري، أتحدث مع هذه المجموعة أو تلك من المجموعات الكثيرة، التي تنزل بذلك الفندق الظريف.
&
وتحدد موعد سفري إلى طبرق بصحبة رئيس المجلس التنفيذي للولاية، الذي كان في الوقت نفسه ناظراً للعدل في الولاية، وكان القانون ينص على حضوره حلف اليمين أمام الملك.
&
وسافرت من طرابلس إلى بنغازي بالطائرة، وكان واضحاً أن مدينة بنغازي أكثر صلة بالعروبة من مدينة طرابلس على أني لم أمض في بنغازي غير بضع ساعات، ثم استأنفت الرحلة مع رئيس المجلس في سيارة «لاندروفر»، كان يقودها رئيس المجلس بنفسه، وبعد أن تناولت إفطاري في ذلك الفندق الصغير الجميل، الذي كان يديره رجل إيطالي وزوجته خرجت مع «سيف النصر» في سيارته..
&
وطفنا بمدينة طبرق، ولم يستغرق ذلك وقتاً طويلاً، ثم اتجهنا بعد ذلك إلى القصر الملكي. لم يكن القصر يزيد على أن يكون منزلاً كبيراً، تحيط به حديقة بسيطة. لم يكن القصر يزيد على مساكن أعيان الريف في مصر، بل إن بعضها قد يكون أكبر حجماً وأكثر فخامة.
&
ودخلت القصر هيّاباً وجلاً .. وقادني أحد الموظفين إلى مكان للانتظار. وهناك تركت «سيف النصر» رئيس المجلس التنفيذي، ووزير العدل بالنيابة- لكي أقابل الملك قبل حلف اليمين- ولم يمض وقت طويل حتى جاءني الموظف نفسه في القصر الملكي لكي يصطحبني إلى مكتب الملك. كانت حجرة المكتب صغيرة بسيطة ليس بها أي مظهر من مظاهر الأبهة أو الفخامة.
&
وكان الملك يجلس على أريكة إلى جوار المكتب، وكان هناك بعض المقاعد البسيطة والمريحة والقليلة العدد أيضاً. لم تكن حجرة المكتب توحي بأنها حجرة ملك بأي حال من الأحوال، وما أظن تلك الحجرة البسيطة يمكن أن تقارن بالقاعات الفخمة، التي يحتلها بعض كبار المسؤولين الآن، الذين يقيسون كبرهم بكبر الحجرات وفخامة الأثاث.
&
ودخلت مسلّماً فقام الملك وسلم عليّ، ثم دعاني إلى الجلوس على أحد المقاعد، وأخذ يردد معي التحيات نفسها، التي يرددها الليبيون العاديون، وسألني عن رحلتي وتمنى أنها لم تكن مرهقة لي، ثم سألني عن أحوال مصر، مبدياً أنه قضى بها وقتاً طويلاً مكرماً معززاً، عندما كان في فترة الهجرة زمن الاحتلال الإيطالي.
&
وبعد ذلك شجعني بكلمات طيبة لكي أتحمل المسؤولية في «فزان»، ثم دعاني لحلف اليمين. وقمت وتلوت اليمين من ورقة كانت معي، وصوتي يكاد يحتبس، وكنت أتلجلج ثم انطلق خفيضاً بطيئاً.
إنها الحياة بكل تقلباتها ومراحلها.
والله هو المستعان.