علي سالم

سن الصبا هي سن المثالية والأفكار الرومانسية. إنها السن التي تسحرنا فيها الأفكار الجميلة. وهي بالطبع تلك التي تحقق العدل وتضمن للناس، كل الناس، العدل والثروة والقوة والصحة. من هذه الأفكار، أن الشرور على الأرض تنبع من الإنسان بسبب الملكية الخاصة، وعندما يتملك الشعب كل شيء فسوف تختفي على الفور كل هذه الشرور. وهو بالضبط عكس ما اكتشفته الشعوب القديمة؛ ففي بردية الفلاح الفصيح المصرية (3000 ق. م) يقول الفلاح مخاطبا المحافظ: احترس من هذا الذي لا يمتلك شيئا.


بالنسبة لجيلي، كل المواصفات الجميلة للحياة الإنسانية الكريمة، كانت تجسدها بل وتحققها الأفكار الماركسية. آلاف الشبان في مصر فقدوا سنوات طويلة من أعمارهم في السجون بسبب اعتناقهم لهذه الأفكار التي كانوا يؤمنون بأنها كفيلة بصنع جنة الإنسان على الأرض. كان التطبيق المثالي الوحيد لهذه الأفكار مسرحه الاتحاد السوفياتي والدول التي تدور في فلكه. ورغم حرص كل الحكومات الشيوعية على إخفاء الكوارث التي تحدث عندها نتيجة لتطبيق هذه الأفكار، وكيف أنها قادت الناس إلى جحيم من التعاسة، فإن الشبان كانوا يرفضون تصديق ذلك ويسخرون منها بوصفها شائعات من صنع الإمبريالية العالمية. من الصعب على الشباب أن يتخلى عن الأفكار الجميلة حتى بعد أن يثبت له أن الطريق إلى الجحيم مفروش بالأفكار الرومانسية الجميلة.


وبعد نحو 70 عاما عاشها - أو ماتها - الشعب الروسي في جحيم تطبيقات الأفكار الماركسية، انتفض وثار وبدأ مسيرته في طريق الحرية، أي في طريق الاقتصاد الحر. وفي عملية التحول إلى الحرية، قاد هذا التحول أشخاص من أصحاب الضمائر من داخل أجهزة النظام نفسه، هذا هو ما يقوله الرئيس غورباتشوف عراب التحول في كتابه «البريستورويكا»؛ ولذلك يجب ألا نندهش من أن الرئيس بوتين كان ضابطا في جهاز أمن الدولة في الاتحاد السوفياتي الراحل.


هدفي من هذه الكلمات هو أنه عندما يتقدم لك التاريخ بأحداث حاسمة تثبت لك خطأ فكرة ما وخطورتها على الناس، فعليك أن تتخلى عنها على الفور. عندما يكتشف الصيدلي أن دواء ما يقتل الناس، فعليه على الفور الامتناع عن بيعه.
لا أعتقد أن مصر ستحقق شيئا ذا بال بذلك الإصرار على عدم الاعتراف بخطورة هندسة البشر من أعلى، وأن ملكيتها للمشاريع والمصانع هو خطأ وخطر للغاية. أمر آخر.. هذا عصر لا يعرف الأجانب، نعم.. لا يوجد أجانب في هذا العصر، ولذلك عندما نتكلم على الاستثمار يجب أن نقول: «الاستثمار» فقط لأن كلمة الأجنبي في التراث الشعبي المصري تعني العدو أو الشخص الذي يشكل عليك خطرا ما. ولتقريب ما أقول للأذهان، أريد أن تتخيل سلوك معظم سائقي التاكسي مع الأجانب. وفي العامية المصرية عندما يتعرض الشخص لمعاملة غير كريمة من آخرين يقول لهم: إيه يا جماعة.. هو إحنا أجانب؟
لا يوجد أجانب في هذا العصر، يوجد فقط رأس المال الباحث عن ربح آمن. من أسخف الأمور أن تكون هناك لوائح خاصة «بالأجنبي» وأخرى خاصة بالمصري وثالثة خاصة بالعربي.