بدر الراشد

يبدو أن الاختلاف حول نشأة وطبيعة تنظيم «داعش» هو الشغل الشاغل لمتابعي الشأن السياسي في العالم العربي هذه الأيام. وهنا تصطدم التحليلات بأمور عدة: فهناك وفرة في التحليلات مع ندرة في المعلومات والمعرفة الدقيقة للوقائع. وهناك الرسائل المتناقضة الصادرة من التنظيم. مع قطع وسائل الاتصال بالمناطق التي يسيطر عليها، وعدم سهولة التواصل مع المدنيين الذين يعيشون تحت سلطته.

&

هناك غموض يحيط بالوقائع على الأرض. فكل ما يقال حول «داعش» يمزج التحليل بالأمنيات، وأنصاف الحقائق بالتخمينات. ولهذا أسباب مختلفة، ربما كان من أبرزها أن أنظمة الدول التي تمدد فيها، أي العراق وسورية، حاولت استثمار وجود التنظيم سياسياً وعسكرياً، فأسهمت هذه الأنظمة بصورة مباشرة في التضليل من خلال ترسيخ رؤية تخدم أجندة سياسية تخول استخدام العنف ضد المعارضة السياسية، حتى وإن كانت سلمية.

&

فالنظام السوري تحدث عن «جماعات السلفية التكفيرية المندسة» قبل أن تطلق رصاصة واحدة في الثورة السورية عام 2011. لاحقاً استمر النظام السوري بإلصاق وزر «داعش» بالمعارضة، وتركيا، ودول الخليج، والولايات المتحدة، وإسرائيل، لمحاولة تبرير عدوانيته ضد المدنيين، وأنه في مواجهة مؤامرة عالمية على نظام «الممانعة» و«المقاومة».

&

وفي السياق ذاته، ردد مالكي العراق بأنها داعش، و«الجماعات التكفيرية السلفية» لقمع احتجاجات العراقيين السنة السلمية على تهميشهم سياسياً في الأنبار ومحافظات عراقية أخرى عام 2012.

&

هذا التضليل المتعمد من هذه الأنظمة حول الوقائع على الأرض، أسهم بشكل مباشر في تضارب المعلومات حول التنظيم لاحقاً. ولا يمكن استثناء أنظمة سياسي أخرى من المشاركة في حفلة التضليل الإعلامية؛ لمد نفوذها إلى المنطقة؛ مستغلةً حال الغموض والذعر.

&

الأمر الآخر أن رسائل «داعش» نفسها تسهم في التضليل. فهناك أهداف متعددة لها، يجعل محاولة تفسيرها للوصول إلى فهم للتنظيم ليس بالأمر بالأسهل. من هذه الرسائل ما هو موجه لجمهور «داعش»، وأخرى إلى خصومها، كما منها ما يتم لأسباب عسكرية، وآخر لأهداف دينية أو سياسية. فعلى سبيل المثال، نجد مبالغة «داعش» في تصوير دمويته وتوحشه من أجل «إرهاب» الخصوم كاستراتيجية عسكرية. وقد نجحت هذه الاستراتيحية نسبياً بحسب الرواية الرسمية المتداولة إعلامياً حول سقوط الموصل، إذ فر آلاف الجنود العراقيين وتركوا أسلحتهم من دون مقاومة تذكر.

&

هناك قتل الطيار الأردني معاذ الكساسبة - رحمه الله – حرقاً. والذي يمكن أن يقرأ سياسياً كمحاولة من «داعش»؛ لتثوير الداخل الأردني ضد مساهمتها في التحالف عبر الضربات الجوية، أو لاحقاً لإسناد أي تدخل بري. كما يمكن اعتبار حادثة الحرق رسالة تحذيرية لبقية الدول المشاركة في العمليات ضد التنظيم. هذا ما جعل ملك الأردن يستجيب لهذه الرسالة من خلال الإعلان عن قصف مواقع لداعش داخل الأراضي العراقية، لترسيخ أن حرق الكساسبة لن يغير من موقف الأردن تجاه المشاركة في عمليات التحالف الدولي.

&

في السياق السياسي-العسكري ذاته، يمكن وضع استعراض «داعش» لأسرى البشمركا من خلال وضعهم في أقفاص والسير بهم في الشوارع، والحديث مع الأسرى من شخص يتحدث الكردية، في محاولة لإرهاب أعضاء الميلشيات الكردية، وربما خلق ممانعة داخل كردستان العراق لمهاجمة التنظيم.

&

هناك على الجانب الآخر، رسائل إعلامية أخرى لهذا التنظيم موجهة إلى أنصاره. كنشر أخبار موثقة بالصور بشكل دائم حول رجم زناة أو قطع أيادي سرّاق أو رمي متهمين «باللواط» من شاهق. هذه الرسائل موجهة لجمهوره لا لخصومها، من أجل ترسيخ الدعاية القائلة بأن داعش «خلافة إسلامية» تطبق الحدود الشرعية.

&

لكن كل هذه الرسائل تشترك في محاولتها استعراض قوة التنظيم؛ لجذب مجندين جدد، اتكاءً على «الإنجاز».

&

الغموض حول «داعش» لا يخرج كذلك عن انغلاق مناطق العمليات العسكرية أمام الصحافيين عادة. وعدم القدرة على التواصل مع من يعيش تحت سلطته.

&

سورية والعراق ليستا استثناء من انغلاق مناطق النزاعات العسكرية إعلامياً. فقد حدث هذا سابقاً في راوندا، ودارفور. كأماكن خطرة أمنياً شهدت انتهاكات خطيرة ضد صحافيين، وهو ما أسهم في تضارب الأنباء حول الوقائع على الأرض.

&

بل يحدث هذا حتى أثناء عمليات عسكرية التقليدية، كالاحتلال الأميركي للعراق 2003؛ إذ اعتمدت وسائل الإعلام الأميركية، ولاسيما في أيام العمليات الأولى؛ على التواصل مع مسؤولي وزارة الدفاع الأميركية، وكان للقنوات العربية وزير الإعلام العراقي محمد سعيد الصحاف.

&

كما يظهر انغلاق التنظيم داخلياً جلياً في رحلة الألماني يورغن تودنهوفر إلى الموصل قبل أسابيع، بعد حصوله على تطمينات من قيادي داعش بتأمين حياته. إذ تم التدقيق بكل الصور والتسجيلات التي حصل تودنهوفر عليها أثناء وجوده في مناطق سيطرة التنظيم. كما تم السماح له بالحديث مع أشخاص محددين. عبَّر تودنهوفر عن أجواء الرعب في الموصل في مقابلته مع قناة «سي إن إن»؛ إذ شبه الحياة تحت رحمة «البغدادي» بالحياة تحت أي نظام استبدادي شمولي يحكم بالرعب.

&

ربما يمكن اعتبار حال «داعش» صدمة للمتفائلين بالعولمة، ومن كان يعول على التقنية الحديثة في تغيير الواقع السياسي العالمي، أو معرفة الحقائق على الأقل. فالعالم الذي أصبح مكشوفاً، ومتواصلاً تقنياً مع بعضه على رغم المسافات، بات عاجزاً عن معرفة وفهم تنظيم عاش مخاضات ولادته خلال العقد الماضي تحت أنظار الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعية، وبات اليوم يسيطر على مساحات شاسعة ويحكم ما يزيد على ستة ملايين إنسان.
&