&&كرم سعيد

&

&

&

&

&


&

&

في الوقت الذي يتسبب تنظيم الدولة الإسلامية في سورية والعراق «داعش»، في قتل وتشريد عدد كبير من سكان منطقة الهلال الخصيب منذ حزيران (يونيو) 2014، أسفر تمرّد جماعة «بوكو حرام» في نيجيريا وقمعها عن سقوط أكثر من 13 ألف قتيل، ونزوح 1.5 مليون شخص في البلاد منذ 2009.

انتصارات «بوكو حرام» وفظاعاتها أدت إلى إرجاء الانتخابات التشريعية والرئاسية إلى 28 آذار (مارس) المقبل، فيما استنفرت دول وسط أفريقيا وعقدت أخيراً قمة رئاسية في ياوندي؛ عاصمة الكاميرون، لإعداد استراتيجية مشتركة ترمي إلى استئصال هذه الجماعة التي يؤرق وجودها المنطقة.

وإذا كان التحالف الدولي الذي يضمّ ما يقرب من 60 دولة لمواجهة «داعش»، يقف عند حده الأدنى، ويبقى عاجزاً عن قضم التنظيم، فإن تشاد والنيجر والكاميرون ونيجيريا وبنين التي حشدت ما يقرب من 8700 جندي في إطار قوة متعددة الجنسيات لمكافحة «بوكو حرام»، لا تزال هي الأخرى متعثّرة في كبح جماح الجماعة التي أعلن زعيمها أبو بكر شيكاو في 24 آب (أغسطس) الماضي، إقامة الخلافة الإسلامية في ولاية «بورنو» شمال شرق نيجيريا على غرار الخليفة «البغدادي».

وفشل الجيش النيجيري طوال سنوات، في كبح جماح «بوكو حرام» التي اخترقت دول الجوار، وتمكنت خلاياها النائمة من استهداف مقرات ومنشآت مدنية وعسكرية. ويعكس تدخل تشاد والنيجر عسكرياً في الأراضي النيجيرية، القلق المتزايد لدى الدول المجاورة لنيجيريا من الجماعة، التي تسعى إلى توسيع مناطق نفوذها الجغرافية لإقامة «الخلافة الإسلامية». والأرجح أن ثمة تربة خصبة وعوامل عدة منحت «بوكو حرام»، التي ترتكز قاعدتها شمال شرقي البلاد عند الحدود مع النيجر، زخماً داخل المجتمع، أولها التآكل الملحوظ في الرصيد التقليدي لحكومة أبوجا، كشفته مناخات الفساد وعمليات اختلاس ممنهجة لأموال حكومية. وثانيها، التوجه السلطوي للرئيس غودلاك جوناثان، الذي يسعى إلى تفصيل المشهد السياسي في البلاد على مقاس طموحاته، وهو ما استنفر قطاعات سياسية واسعة في صفوف المعارضة والموالاة، وكان بارزاً، هنا، قيام الرئيس السابق أولوسوغن أوباسانجو بتمزيق بطاقة عضويته في الحزب «الديموقراطي الشعبي» الحاكم في نيجيريا، وانسحابه رسمياً من الحزب بعد تواتر أحاديث عن نية جوناثان تزوير الاقتراع لضمان البقاء على مقعد الرئاسة الوثير. وثالثها، تركُّز القدرات الاقتصادية الهائلة لنيجيريا وعوائد النفط في يد أصحاب النفوذ مقابل معاناة لغالبية المواطنين، حيث يعيش نحو 60.9 في المئة من مجموع السكان البالغ عددهم 170 مليون نسمة، بأقل من دولارين في اليوم، فيما شهد معدل النمو تراجعاً ملحوظاً بفعل تراجعات أسعار النفط وتصاعد وتيرة العنف.

وراء ذلك، يقبع الفشل في معالجة قضايا المسلمين واحتوائها، وكان بارزاً، هنا، قرار الحكومة مطلع شباط (فبراير) الجاري، حظر ارتداء الحجاب في المدارس الحكومية. وانعكس هذا السلوك المشين تجاه أحوال المسلمين، على التغير الأيديولوجي لجماعة «بوكو حرام» باتجاه إعلاء نسق التطرف وقيم العنف. ولم يقتصر التحول الأيديولوجي للجماعة على رؤيتها للنظام السياسي في نيجيريا، بل على المخالفين من المواطنين أيضاً. فقد أصدرت الجماعة سيلاً من الفتاوى التي تجرم التعاون مع الدولة، ووصل المشهد الذروة بإهدار دماء المتعاونين مع النظام والحكومة باعتبارهم مرتدّين ومتعاونين مع الكفار.

في سياق متصل؛ تتجاهل الدولة التعاليم الإسلامية في مناهج التدريس المدنية بالأساس، ولذلك كان سهلاً على التيارات الراديكالية في نيجيريا، التي يعود تاريخ ظهور التيار السلفي الجهادي فيها إلى النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي، عندما ظهرت حركة أطلقت على نفسها اسم «جماعة إزالة البدعة وإقامة السنة»، الوصول إلى نسختها النهائية «بوكو حرام» التي تأسست عام 2004، وتطرح نفسها كمدافع عن الإسلام والمسلمين ضد المسيحيين.

ويرتبط العامل الأخير بتمدّد الجماعات الأصولية حول العالم، وفي الصدارة منها «داعش» و»أنصار بيت المقدس» و»طالبان باكستان»، فضلاً عن حركة طالبان «الأفغانية»، و»جند الخلافة» في المغرب وغيرها من الجماعات المسلحة التي وجدت في التكنولوجيا الحديثة وسيلة وفرصة للتنسيق وتبادل الخبرات.

والأرجح أن المناخ العام في نيجيريا ودول الجوار، وفّر بيئة خصبة لتنامي قدرات «بوكو حرام»، إلا أن المشهد وصل إلى الذروة مع تغيير أنماط العنف لتلك الجماعة واستلهامها سلوكيات «داعش». وثمة أوجه للتشابه بينهما؛ لا سيما على صعيد وحشية الأعمال المتطرّفة، ففي الوقت الذي أعدم «داعش» المئات من الأقلية الإيزيدية في الموصل وخطف آخرين، لم تتورع «بوكو حرام» عن قتل المسيحيين في نيجيريا للتأثير في الأهالي كي يأتمروا بأمرها وينضووا تحت سلطانها، إضافة إلى رفع معنويات المقاتلين، مثلما يفعل «داعش»، لإظهار قوته وجبروتها.

كلاهما يمثل تطوراً طبيعياً لبعض الأفكار الإسلامية الراديكالية، فـ «داعش» يعد امتداداً لأيديولوجية «القاعدة» التي تأسست على أفكار رئيسية عدة أهمها، أن الجهاد الدائم هو الوسيلة الوحيدة لعودة سيادة الإسلام، وأيضاً مبدأ الولاء والبراء الذي يرتكز على تفسير محدد، قوامه أن من قدم ولاءه لقيادة تنظيم القاعدة مشفوعاً بالطاعة، فهو من الفرقة الناجية. في المقابل، ترتبط «بوكو حرام» من الناحية الفكرية والأيديولوجية، بحركة «طالبان - نيجيريا»، التي تأسست مطلع الألفية الثانية، على نهج طالبان - أفغانستان.

الفكرة الرئيسية التي تؤمن بها «بوكو حرام»، و«داعش» أيضاً، هي أن دولة الخلافة الإسلامية لا بد أن تسود الكرة الأرضية، ويلزم تحقيق هذا الغرض قتل غير المسلمين إذا ما باء إجبارهم على اعتناق الإسلام بالفشل. منطق «بوكو حرام» هو منطق «داعش» الذي يزاوج بين الدعوة المزيفة والإرهاب.

هذا المنطق عبّر عنه زعيم الجماعة؛ أبو بكر شيكاو، حين قال رداً على الاهتمام الدولي الكبير بحادثة اختطاف الفتيات: «نحن حررنا هؤلاء الفتيات اللواتي تهتمون بهن كثيراً، بأن اعتنقن الإسلام». أهم ما يجمعهما أيضاً القراءة المشتركة للانتصارات والمنجزات التي يحققانها على الأرض، فكلاهما يعتقد أن كسر هيبة الدولة وهدم مؤسساتها هما نصر من الله. وتأتي تصريحات قادة أبناء العنف في «داعش» و»بوكو حرام»، كاشفة عن نمطية عقلية أبناء العنف واتجاهاتهم وتوجهاتهم العقائدية الموحدة، فهم يعتقدون أن ما يفعلونه تكليف إلهي لحكم العالم المستغرق في شهواته بالشريعة الإسلامية.

نيجيريا في مفترق طرق، وربما تحتاج إلى أكثر من وسيلة لبتر أوجاع «بوكو حرام» التي باتت تسير على خطى «داعش» بجلب أنماط جديدة من الهمجية والوحشية، والتي أدى تكرارها إلى تراجع تماسك الجبهة الداخلية في نيجيريا، واتساع الرتق بين مكونات المجتمع النيجيري «مسيحيين ومسلمين».

لذلك، تبدو البلاد في حاجة ماسة إلى التأسيس لتفاهمات جديدة بين الدولة والأطراف الفاعلة، والشروع في حوار واسع لمعالجة قضايا المسلمين، فضلاً عن ضرورة الدفع قدماً بتطوير القوات المسلحة النيجيرية، وتحديث المعدات والتدريبات والدعم اللوجيستي الخاص بالقوات المسلحة والعناصر الأمنية. وكشفت انتصارات «بوكو حرام» طوال الأشهر التي خلت، عن ترهّل القدرات العسكرية لنيجيريا، وعلى رغم أن نيجيريا أنفقت بالفعل 20 في المئة من موازنتها على الدفاع، إلا أن القوات الأمنية ما زالت تفتقر الى المعدات اللازمة للتغلّب على «بوكو حرام».
&