عبدالله النغيمشي

توالت حركات التجديد الديني في التاريخ الإسلامي وأهرقت جهوداً كبيرة، لكنْ أي منها لم يغيّر من واقع الإسلام المؤول شيئاً فارقاً، على رغم كم المشاريع والمحاولات الكبيرة.

&

حركة النهضة العربية «أنموذجاً»، التي انطلقت في القرن الـ19 انشغلت كثيراً في استصلاح الإسلام وتجديده، لكنها لم تعدُ أن مارست التجديد الرغبوي، الذي يعتمد ترويض الإسلام ليتوازى مع المنتج الفكري الأوروبي التنويري، وإخضاع المفاهيم الإسلامية إلى مسطرة التنوير والحداثة الأوروبية، ما يعني أن حركة التجديد بشكل ما مماهاة ومحاكاة للتنوير على النموذج الأوروبي الناجز، وامتداد ومسايرة له.

&

عامة حركات التجديد تنتهي بالعودة إلى فهوم إسلام ما بعد التدوين؛ تاركة المسافة الزمنية الأهم التي تقارب القرنين، ومسافة معرفية متطاولة فكرياً وتنظيرياً عن لحظة التأسيس الأولى، لحظة الإسلام الأول بنقائه ومباشرته وعفويته.

&

التجديد الديني الإسلامي ظلّ يراوح في أطروحاته، من دون أن يمتلك التأثير الجوهري في تحديث الفكر والوعي الديني؛ نظراً إلى استعادته وتكراره الأخذ والانطلاق من مرحلة التدوين، التي تعد اللحظة الفارقة في توجيه الشريعة، وتدشين عصر التقليد والتأطير الديني، بما فيه المذهبية الفقهية والعقائدية.

&

التأزم الذي ظل متماساً مع الفكر التجديدي في الإسلام؛ يكمن في «الإطار المعرفي» المحدد للفكر والوعي الديني.

&

مرحلة التدوين، رسّخت مفهومية الإطار المرجعي الإسلامي من خلال بلورة مفاهيم محددة للتشريع؛ تجعل الاجتهاد والتجديد لا يتجاوز مرحلة التدوين إلى ما قبلها، إذ لحظة سخونة المقدس لحظة تنزل الوحي والتشريعات على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ذلك أن مرحلة التدوين تحولت إلى إطار مرجعي لا يجوز القفز عليه.

&

لو أخذنا مفهوم مصادر التشريع الذي دشنه الإمام الشافعي ومن بعده في عهد التدوين؛ وجعله موازياً لمراد الشارع، والتي تتمثل في أربعة أصول «الكتاب والسنة والإجماع والقياس»؛ لوجدنا أننا إزاء إحالة حتمية إلى فهم تاريخي تمثل بالشافعي، وغيره من الفقهاء الذين أوقفوا الشريعة عند زمانهم وفهمهم النسبي.

&

نحن بحاجة إلى التحرر من الإطار المعرفي التقليدي، الذي صنعه بعض الفقهاء في حدود مصادر التشريع.

&

القرآن الكريم سيظل الدستور اليقيني الوثوقي الذي لا يقبل التبديل والتحريف، وهو المرجعية الأصيلة في التشريع الإسلامي، وأعني يقيني وثبوتي النص، الذي لا يشك مسلم بأن التحريف والتبديل يطاله، من ناحية حرفيته ونصه كما أنزله الله - سبحانه - من دون زيادة أو نقصان، ما تعرض له النص القرآني المقدس كان عبر تأويله وتوجيه فهمه بحسب رغبوية الفقيه والمفسّر المذهبي والتقليدي، وذلك ما أخذ النص ناحية التقييد والتحريف في المعاني والمقاصد، ولعل مفاهيم كالناسخ والمنسوخ وأسباب النزول وغيرها، كان لها الدور في تحريف دلالات النص المقدس.

&

الذي أعنيه، أن القرآن يظل المرجعية الأهم والأقدس في شريعتنا الإسلامية، حالما أعدنا له طهرانيته وانفتاحه الدلالي وحيويته، وأعدنا له هيمنته، ولا يعني أن أنفي السنة النبوية كحال من يسمون قرآنيين، كما أنني لا أعتد بالذهنية الحديثية التي توجّه القرآن عبر التوجيه الحديثي، الذي يرهن القرآن إلى الحديث، الحديث ما لم يكن متسقاً مع روح القرآن وعموماته وغير متسق معه؛ فإنه لا يعتد به ولا يؤخذ به، فلا يمكن أن تتعارض السنة مع القرآن إلا عند الغلاة في الحديث على حساب القرآن.

&

إننا حينما نتجه إلى نزع الإطار المعرفي أو المرجعي في التشريع والفقه الإسلامي المحاكاتي، الذي يعتمد على الذهنية المذهبية ومصادر التشريع المؤلهة - والتي هي في حقيقتها منتج بشري-؛ فإننا سننخرط في مرحلة أكثر تسامحاً وليونة في التشريع، حيث التعاطي مع النصوص التأسيسية عبر المعطيات الحديثة العلمية النقدية.

&

تعاني ثقافتنا من التراجع والتيه الحضاري؛ نتيجة هيمنة المرجعية الدينية الضعيفة العاجزة عن الإجابة عن سؤالات الراهن، والتعايش مع المتغير الحضاري الذي تجاوزت شروطه وآلياته مشروطية الإطار المرجعي الديني القديم.

&

ثقافتنا الدينية تأبى الانخراط في المنجز الغربي، الذي ذهب بعيداً ناحية الوعي والانفكاك من قيود القرون الوسطى، والاندغام في الحضارة بكل طيوفها، في الوقت نفسه الذي ترفض فيه ثقافتنا التفوق على نفسها، من خلال المراجعة والتفكيك والخلاص من ربقة وآصار الماضي المعرفي الموات، من القرن الثامن ظلت ثقافتنا الدينية تجتر وتستنبت ذاتها في دورة تفتقد التطور والتحديث.

&

المأزق الأخطر في إسلام اليوم «إسلام التاريخ»؛ حالة الانفجارات الفكرية، التي تمثلت بتشكل جماعات الإرهاب، والتي تنهل من هذا الإسلام المموه بالأدبيات العنفية المنهجية، ذلك أن أدبيات هذا التديّن وجدت موردها من التراث الفقهي الذي ظلّ من دون مراجعة، كما هو ظل محبوساً داخل غيتوهات الإطار المرجعي المؤلّه والمتمثل بإسلام مرحلة التدوين، والتي ظلت تحكمنا عبر قرون متطاولة؛ بوصفها الإطار المقدس الذي لا يحتمل المراجعة.

&

«الحصاد» لا تزال أدبياتنا الشرعية ترتهن إلى لحظة التدوين، والتي اعتمدت في تأسيس نمط الشريعة والإطار المرجعي، الذي يأخذ حق التأبيد في اللاواعي الديني عبر العصور.

&

تأسست المرجعية الدينية «الإطار المعرفي الديني» والتي تشمل مصادر التشريع «الكتاب والسنة والقياس والإجماع ومصادر أخرى أنتجتها المذهبيات الفقهية»، في زمن يباين زمننا في أطر عدة تكاد تصل إلى مرحلة القطيعة، ذلك أن زمن تأسيس المرجعية والإطار المعرفي التشريعي كان زمناً له ظروفه وسياقه، الذي حتّم طبيعة التعاطي مع الشريعة، ولعل وجود مؤسسة وذهنية الخلافة أسهم في إنتاج نمط معرفي فقهي يوازي تلك اللحظات.

&

في زمننا تغيّرت كل الظروف والمعطيات، التي تآزرت في صناعة الفقه والتشريع قديماً على سبيل المثال، في هذا العصر تشكلت الدول في إطار حديث والمتمثل بالدولة الوطنية، التي لا يمكن أن يتنزل عليها الفقه والتشريع العتيق كفكرة المواطنة والمساواة في الحقوق بين المواطنين مثلاً، بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية، وذلك ما لا يتقبله الفقه الأول، الذي يتعاطى مع الأفراد من خلال أديانهم بالتفضيل بين المسلم وغيره في أمور عدة، خذ مثلاً: «لا يقتل مسلم بكافر/ دية الكافر/ الجزية/ فكرة أهل الذمة» وغيرها من المسائل الفقهية التي لا تحتملها فكرة الدولة الحديثة الدولة الوطنية.

&

مهما ظللنا نلقي اللوم على الآخر «المستعمر» في حروننا الحضاري؛ فإننا نمارس التمويه على أنفسنا وأدبياتنا التراثية الدينية؛ المسؤول الحقيقي عن قعودنا وتأخرنا عن ركب الأمم كافة، حتى النامية منها.

&

نعجز عن الرد على أفكار جماعات التطرف في ممارساتها وأطروحاتها لأنها بالنهاية تزاحمنا ذات المورد والإطار المعرفي الديني.
&