سمير عطا الله

مرَّ بي الرشح، أو الزكام، أو البرد، وكلها أسماء لتعاسة واحدة. وكان الرفيق العزيز أمين الحافظ يقول، إن المتاعب تأتي في «سلسلة سوداء». وقد حلَّ الرشح، أو النزلة الصدرية، بعد زيارات متعددة إلى المستشفى من باب الطوارئ. وكان البواب يتمنى لي كل مرة وأنا خارج بحمد الله، ألا يراني مرة أخرى. وربما كان ذلك عكس أمانيه الداخلية والرغبة في الزيد مما أعطانا الله، فكنت أعود لأراه يدير «حركة السير» من أمامي في الرابعة صباحًا، وكانت «الحركة» مؤلفة مني وحدي.


وما دام في كل سوء طرق خير، فقد كانت مفاجأتي والضغط يرتفع إلى 21 درجة، أن رئيس قسم الطوارئ طبيبنا في لندن لسنوات، الدكتور رشيد رحمة، الذي كان طبيب الطوارئ في مستشفى «نوتنغ هيل». وقامت صداقة متينة بيننا على قاعدة أنه مصيب دائمًا في الطب، وأنا مصيب في السياسة. وكلانا يتقدم في موقعه، وكذلك بلدنا في السياسة وفي الطب.


وعندما يصل المرء من بوابة الطوارئ أول سؤال يُطرح عليك، كم عمرك. وعندما ملأت تأشيرة الهبوط في باريس أول مرة عام 1961، دونت تاريخ الولادة، ثم تطلعت في باقي الركاب في زهو. أما الآن، فعندما يُطرح السؤال كلما دخلت ممرضة جميلة، أتذكر أغنية فيروز: «يا خجلتي منك، تجي وما تعرفني».


حالت الإقامات في المستشفى دون واجبات كثيرة. ولم يبقَ لي من الهمّة سوى أن أملي الزاوية على زوجتي، التي تقوم بدور الممرضة والسائق وتنظيم أوراق الدخول وملاطفة سكرتيرات الأطباء اللاتي اشتهر عنهنّ أنهنّ لا يبتسمن إلا ساعة الخروج من المستشفى. وصرت إذا عدت للمراجعة من دونها تسأل السكرتيرة فورًا: شو؟ خير؟ وين المدام؟ وأشرح أنا: مرّت بالصيدلية لشراء الأدوية التي لم تكن متوافرة بالأمس.


الزكام كان أتعس الفصول. يسميه الإنجليز «تعاسة البرد». لا جَلَد على القراءة ولا على التلفزيون ولا على الـ«آيباد». في هذا الحال الوعر لم يبقَ لي سوى أن أقوم إلى الحديقة بين حين وآخر متفقدًا هرّين صغيرين أهدانا إياهما الناطور. تجربة «إنسانية» لا مثيل لها. كائنان يراعيان جميع الحدود. يقدمان المشاعر، ثم ينصرفان إلى عالمهما الصامت. وإذا حضر هرّ ضيف من الخارج، توقف وتباطأ ليرى إذا كان مسموحًا له مشاركتهما الطعام. وإذا لم يأذنا تراجع ثم انصرف. وفي عالم الهررة الكثير مما يحسن بنا أن نقتديه. احترام حقوق الآخرين وحدودهم، وعدم الاعتداء على أرزاقهم. يا لتعاسة البشر والزكام.