&جلال أمين

&

&

&

لا أمل لدى فى أن نحسم الخلاف حول، إذا كانت داعش صناعة محلية أم أجنبية، بكتابة مقال أو مجموعة من المقالات، فالخلاف هنا ليس حول ما إذا كانت 2 + 2 = أربعة أم خمسة.

&


إذ إنه من الممكن جدا، فى حالة داعش مثلا، أن تكون الإجابة أربعة وخمسة فى الوقت نفسه ، أى أن تكون صناعة محلية وأجنبية فى الوقت نفسه. وما نطمح اليه هو تغليب إجابة على أخري، بحكم أن بعض العوامل أهم من غيرها.

&

هذه هى الحال فى كل القضايا الاجتماعية والسياسية فعندما نقول مثلا: إن تطور المجتمعات يحكمه تطور التكنولوجيا والاقتصاد، يمكن أن نقر أيضا ونعترف بأن للأفكار والمذاهب والزعماء دورا فى التطور الاجتماعي، ومع ذلك نستمر فى التأكيد على أن الدور الحاسم هو التطور الاقتصادى والتكنولوجي.

&

كذلك فى قضية داعش: هل هى صناعة محلية أم أجنبية. طبعا هناك دور للعوامل المحلية. الفقر شديد فى بلادنا، والجهل شائع، والغضب منتشر، وأسباب الغضب كثيرة ومتجددة، ومن لا يدفعه الجهل للانضمام اليها، قد يؤدى به غضبه (ولو لسبب شخصى بحت، كرفض من يحبها أن تتزوج منه مثلا) إلى أن يلعن الدنيا كلها وينضم لحركة داعش. كل هذا ممكن أيضا، ولكن هذا كله لا ينفى أن يكون للقوى الخارجية اليد العليا فى نشأة حركة داعش أو تطورها أو انتشارها، على النحو الذى نراه، من بلد لآخر تختلف ظروفها المحلية اختلافا شديدا.

&

ناهيك عما تقترن به ظاهرة مثل داعش من تضليل متعمد، فإذا كانت حركة داعش مدفوعة فى الأساس بأيد أجنبية (وهو الاعتقاد الذى أميل أنا اليه وكثيرون غيري) فهل نتوقع أن تأتى الينا داعش وقد كتب عليها (مصنوعة فى الولايات المتحدة أو إسرائيل مثلا؟) أو هل نتوقع أن يقف أحد زعماء حركة داعش (الذين لا أعنى حتى بتذكر أسمائهم ليقينى بعدم أهميتهم ويقول إنه قبض مبلغ كذا من سفارة كذا، أو أنه قابل المبعوث الأمريكى أو الإسرائيلى فى بلدة كذا فى يوم كذا لمناقشة الخطوة المقبلة؟ لا بالطبع، بل الأرجح أن يبرز ما يقوم به من جرائم بأنه يستهدف إعادة مجد الإسلام، رغم تعارض ما يزعمه مع أبسط الحقائق، إذ إن هذا الأدعاء الجنونى أهون عليه من الاعتراف بأنه مدفوع وممول من قوة خارجية.

&

وإذا قام بعض أفراد داعش بقتل بعض الأقباط فى ليبيا، فهل نتوقع منهم أن يذكروا لنا أن هذا القتل يحقق بعض المآرب الخارجية فى إحداث قلاقل فى مصر وغيرها.ولهذا فضلوا قتل عدد من الأقباط فى عملية واحدة بدلا من أن يختلط فيها الضحايا بين المسلمين والمسيحيين؟ أم أن الأرجح أن يقدموا لنا فيلما سينمائيا يحتوى على كل عناصر أفلام الرعب الرديئة الإخراج، وإن كانوا يستخدمون فيه تقنية متقدمة جدا فى التصوير، ويصرون على ارتداء الضحايا رداء أحمر مما تستخدمه بعض الدول الكبرى مع من تعتقلهم من الإرهابيين المتحمسين أيضا لإعادة مجد الإسلام؟

&

وإذا كانت داعش صناعة محلية حقا، فهل نتوقع ممن انضم اليها لأسباب شخصية بحتة أو لعقدة نفسية قديمة أو حديثة، أن يعرف هو نفسه كيف أدت به هذه الظروف الشخصية المعقدة إلى الانضمام إلى حركة تمارس العنف باسم الدين، رغم انعدام العلاقة بين الدين أو العنف وبين مشكلته الشخصية؟

&

لابد أن نقر ونعترف بأن أى محاولة من الخارج لإحداث تغيير سياسى أو اجتماعى فى الداخل أو تغيير كبير فى خريطة منطقة من المناطق، لابد أن تستغل بعض الظروف الداخلية.

&

لابد أن نعترف بهذا لأن هناك دلائل قوية عليه منطقيا وتاريخيا. التدخل الخارجى لابد أن يجد تربة خصبة لكى يؤتى ثمرته، فإذا لم توجد التربة الخصبة من الأصل فلابد من إيجادها أولا (أى لابد من العمل مثلا على استمرار الفقر والجهل والفساد) ونحن نعرف أيضا من تاريخ الاستعمار فى بلادنا وغيرها أن المستعمرين لم ينجحوا فى تحقيق أهدافهم إلا بمعونة بعض الخائنين أو المخدوعين فى الداخل.

&

ولكن لابد من ناحية أخرى أن نعترف بأن القوى الخارجية التى تسعى إلى إحداث تخريب من نوع أو آخر فى بلادنا أو إلى إعادة رسم الخرائط وتقسيم الدول، لم تعد تعتمد منذ فترة تزيد على نصف قرن، على الاحتلال المباشر أو الحروب العالمية (كما حدث فى تقسيم سيكس ـ بيكو مثلا ) بقدر ما تعتمد على وسائل مستجدة من الرشوة والإفساد وشراء الرجال، إلى جمع مختلف أنواع المعلومات عن المجتمع الذى تريد تخريبه، وعن رؤسائه ووزرائه، مما يمكن استخدامه لتهديدهم وإذلالهم، بالإضافة إلى مختلف وسائل غسل المخ والدعاية والتخويف، واختراع أعداء مرعبين من نوع أسامة بن لادن مثلا أو منظمة داعش، وهى وسائل شهدت تقدما كبيرا خلال نصف القرن الماضي. الأهداف الخارجية الخبيثة لاتزال موجودة، ولم تتغير كثيرا عما كانت فى عهد الاستعمار القديم، بينما تطورت وسائل القهر والخداع بدرجة غير مسبوقة، فلماذا لا تكون الظاهرة التى تبدو محلية ذات عناصر مهمة آتية من الخارج؟

&

لن يكون إذن هل هذه المشكلة التى تواجهنا (أقصد الإجابة على السؤال عما إذا كانت داعش صناعة محلية أم أجنبية) بمجرد الإشارة إلى عوامل داخلية قد تساعد بطبيعتها على وجود ظاهرة من هذا النوع (كالإشارة إلى الفكر الوهابى مثلا، كما ذهب كثيرون، أو إلى اتسام العراقيين بالعنف بالفطرة كما ذهب البعض أخيرا، أو إلى مختلف الأسباب الداعية للغضب فى كل البلاد العربية) لن يكون فى هذا حل للمشكلة لأن من الممكن الرد على ذلك بالإشارة إلى الفوائد الجمة التى يمكن أن يجنيها بعض القوى الخارجية من وراء ايجاد حركة مثل داعش تحدث كل هذا التخريب فى كل بلد عربي.

&

لن ينفعنا أيضا أن نستسلم لأهدافنا الشخصية بأن نرجع كل ظاهرة كريهة إلى شخص أو نظام نكرهه. فإذا كنا مثلا نكره نظام الأسد فى سوريا كراهية شديدة، بسبب دولته البوليسية أو لأى سبب آخر، نعتبره هو المسئول أيضا عن ظهور حركة داعش. أو إذا كنا نشعر بعداء شديد لجماعة الإخوان المسلمين، ونخشى بشدة أن تعود إلى حكم مصر، نذهب إلى أنها هى بالضرورة المسئولة عن ظهور أو نمو حركة داعش لابد أن نبحث بدلا من ذلك عن أطراف لديها المال الكافي، والسلاح الكافي، والقوة الدعائية الكافية، فضلا عن الفوائد الجمة التى يمكن أن تحققها من ايجاد دعم حركة مثل داعش والترويج لها وإثارة الرعب منها. وأظن أن هذه العناصر كلها: المال والسلاح والقوة الدعائية والمنافع الجمة التى ينتظر تحقيقها تتوافر فى بعض القوى الخارجية أكثر مما تتوافر للأطراف المحلية.
&