رشيد الخيّون

اشتهرت «مس بل» بين السِّياسيين العراقيين بلقب «الخاتون» (ت 1926)، وقد كتبت ونُقل عنها أنها أحبت العراق، ولا مانع أن تكون مسؤولةً استعمارية كبيرة وتحب العراق. ماتت ودفنت في تربة بغداد. ما العلاقة بين «الخاتون» و«داعش» كي تُجمعا في عنوان واحد؟ إنها ماضي التَّأسيس وحاضر التدمير، يوم فُتحت بوابات المتحف العراقي للصوص، وكان عبث (أبريل 2003) بدافع آخر، ولابد أن مؤسسات كبيرة وقفت خلفه، وبعض الأميركيين لم يكونوا بمنأى عن ذلك. أما عبث الخميس الماضي (26 فبراير 2015) فأمره أمرٌ، فقد تخيل الدواعش أنهم يمسكون بفأس النبوة ويهوون بها على آثار آشور، أو الظاهر للنَّاس كذلك! ولا ندخل بنقاش مع «داعش»، على أن أصنام مكة غير تماثيل سومر وبابل وآشور، فقد وصل المسلمون إلى أفغانستان وعاشوا قرب تمثالي باميان ولم يهدموهما.

قال الحموي (ت 626هـ) عن موضع تمثالي بوذا: «قلعة حصينة، والقصبة صغيرة، والمملكة واسعة.. وبها بيت ذاهب في الهواء بأساطين مرفوعة، منقوش فيه كل طير خلقه الله تعالى على وجه الأرض، ينتابه الذعار، وفيه صنمان عظيمان، نُقرا في الجبل من أسفله إلى أعلاه، يسمى أحدهما سُرخبد والآخر خِنكبد» (معجم البلدان).

&

لم يعبث بهذين التمثالين (حُطما في 12 مارس 2001) إلا «طالبان»، شقيقة «داعش»! وهذا الطَّبري (ت 310هـ) ذكر أن أحد القادة المسلمين (سنة 257هـ) «قَدم بأصنام ذكر أنه أخذها مِن كابل» (تاريخ الأمم والملوك)، نقلها ولم يحطمها، والقصة طويلة.

ونتذكر أن فقهاء دين شجبوا فعلة «طالبان» في حينها، وأن وفداً ذهب لثنيهم عن ذلك، لكن أين تلك الأصوات مِن عبث «داعش» بآثار الموصل؟ فهل التي بالعراق أصنام والتي بأفغانستان ليست أصناماً في عرف هؤلاء الفقهاء؟

يعيد التاريخ نفسه. خلال أقل مِن مائة عام، عندما وقف نائبا الموصل في البرلمان العراقي، ضياء يونس (ت 1937) والخوري يوسف الخياط (ت 1947)، يطالبان بحماية آثار نينوى مِن السرقات والتصدير إلى الخارج (1926)، وها هي الآثار التي ذادا عنها وتأسس متحف الموصل والمتحف العراقي لأجلها تُحطم بفؤوس «داعش». ليس هذا فقط، صارت موصل ضياء يونس والخوري يوسف، بتاريخها ودجلتها، مُلكاً لـ«داعش»! يومها، أنشد ضياء يونس لأحمد شوقي (ت 1932)، مخاطباً رئيس الوزراء توفيق السويدي (ت 1968)، يحثه على حماية الآثار العراقية من البعثات الأجنبية: «أمَِن سَرق الخليفةَ وهو حيُّ/ يعفُ عن الملوك مكفنينا»؟ قاله شوقي بما يخص الآثار المصرية التي تعرضت لموقف مشابه (1924). أقول: ماذا لو عاش نائبَا الموصل، الخوري ويونس، إلى عهد نهب المتحف العراقي وعبث «داعش»؟ وماذا سيقولان؟ أظن أنهما سيشجعان البعثات الأجنبية كي تكون الآثار بحماية المتاحف العالمية، ونُدهش بها نحن قبل غيرنا.

لا نملك ثقافة في الآثار، بقدر حرصنا على قصص الماضي التي جعلت حاضرنا معتماً، أما روعة ذلك الفن فظلت تحت طبقات الأرض، وفي العهد العثماني تحولت المستنصرية (افتتحت 631هـ) ببغداد محطةً للكمارك وزريبة للحمير الناقلة للبضائع، بينما كانت صرحاً علمياً.

بدأ الاهتمام بالآثار العراقية بتأسيس الدَّائرة الأركيولوجية (1920) بجهود الخاتون، ملحقة بوزارة المعارف. الخاتون التي لها الفضل بتأسيس أول متحف عراقي، قالت لنا: أنتم أصحاب حضارة. وبعد وفاتها تولى الإدارة المستر كوك، لكنه سرق الآثار وطرد من العراق، فتولى الأمر سدني سميث، وكان يشغل وظيفة معاون مدير المتحف البريطاني، ثم استلمها يوردان، وهكذا ظلت إدارة الآثار تحت المسؤولية البريطانية حتى تعيين ساطع الحصري مديراً لها (عام 1934)، وكان لهذا الرجل دور مميز في الحفاظ على الآثار العراقية.

وبذلك تكون أول ثقافة المتاحف قد ظهرت بداية العشرينيات وبجهود «مس بل» في غرفة من غرف دار الحكومة (السراي)، وتوسع المتحف مع توسع الاستكشافات الأثرية، فنقل إلى بناية خاصة بشارع المأمون بالرصافة، ثم استقر بالصالحية غرب بغداد، بعد أن رُفع من أمامه تمثال مؤسسته، وهي الأحق بذكراها في هذا المكان.

أترك لكم المقابلة بين عناية «مس بل»، الاستعمارية، بالآثار، وبين خراب «داعش» (وفيها عراقيون موصليون!) وعبثها بأهم الوثائق! وللرُّصافي (ت 1945): «فإن ذكروا النُّعمان يوماً فلا تثق/بأكثر مما قال عنه الخورنق» (الدِّيوان).
&