&انور مغيث

&

&

&

إجبار الضحايا على ارتداء زى برتقالى، وحرق الناس فى أقفاص، والاخراج السينمائى للذبح .. كلها سمات تميز جماعة داعش الإرهابية.


ولكن لو تجاوزنا هذه السمات المظهرية وانتقلنا إلى البحث عن منظومة الأفكار والتصورات التى تكمن خلفها، لوجدنا أن لداعش أخوات كثيرات: يأتى إلى الخاطر طالبان والقاعدة والنصرة. ولكن الأمرإلى تكوينات أخرى ربما تكون ذات مظهر حداثى متأنق. إن السلوك الداعشى، إذا جاز هذا التعبير، هو سلوك كل من يريد أن يطيل عمر مرحلة فى تاريخ البشرية عفى عليها الزمان، ويمكننا أن نقف على طبيعة هذا السلوك حينما نضع فى حسباننا الانتقالات الكبرى التى حدثت فى تاريخ البشرية منذ ما يقرب من قرنين من الزمان : الانتقال الأول من التمثيل بالجثة إلى المنع من الحرية عرفت البشرية فى مختلف ثقافاتها العقوبات البدنية، مثل الجلد والرجم والبتر، كما عرفت أيضاً التمثيل بالجثة على الملأ، ولم يكن هذا يخص المجتمعات الاسلامية وحدها، بل شاع فى الحضارات الهندية واليونانية والرومانية، واستمرفى أوروبا حتى القرن الثامن عشر.

&

&

&

انتقلت البشرية بمختلف ثقافاتها بعد ذلك إلى قاعدة المنع من الحرية، أى السجن، بدلاً من عقاب البدن. وأصبحت هذه فلسفة العقاب فى جميع المجتمعات المعاصرة على اختلاف ثقافاتها وأديانها، ويرى العقاد أنه حين نزل الإسلام لم يكن من المعقول أن يأتى بتشريع يخالف ماهو شائع لدى البشر أى عقاب البدن، كما أنه ليس من المعقول، لو فهمنا الإسلام فهماً صحيحاً، أن نستمر فى العصر الحديث، بمثل هذا التشريع القديم. ولكن هذا الرأى يخالفه كل أطراف الإسلام السياسى بتنويعاته المختلفة، فبعد انتخاب برلمان الإخوان تم رفع شعار «الشرعية فى البرلمان وليست فى الميدان»، ضاق الكثيرون بمظاهرات الشباب، فتقدم أحد نواب السلفيين باقتراح للبرلمان بضرورة تطبيق حد الحرابة على المتظاهرين باعتبارهم يقاتلون الله ورسوله، فقرر رئيس البرلمان الاخوانى تشكيل لجنة لدراسة إجراءات تطبيق حد الحرابة. وهكذا وجدنا أنفسنا أمام برلمان يشكل لجنة لتحديد كيفية تقطيع أطراف المتظاهرين والتمثيل بجثثهم.

&

&

الانتقال الثانى من الخطيئة إلى الجريمة

&

&

الخطيئة بحسب كل دين هى عصيان الأوامر والنواهى الإلهية، أما الجريمة هى القيام بعمل يحمل ضرراً أو أذىً للآخرين. وكانت التشريعات فى كل المجتمعات تحتوى على عقوبات لكلا الفعلين، فكان يعاقب من ينكر عقيدة من العقائد التى جاء بها الدين، وهو مايعد معصية، ومن سرق شيئاً من بيت جاره، وهو ما يعد جريمة فى العصر الحديث، قامت فلسفة القانون على الاكتفاء بالعقوبات على الجرائم، وتركت أمر العقاب على المعاصى أو الخطايا للحساب فى اليوم الآخر، وهكذا خرج من إطار الأفعال التى تستوجب عقاباً: الكذب، وترك الصلاة والنميمة وعدم الإخلاص فى الزواج.. وغيرها. وكان هذا التحول ضرورياً لضمان حقوق الإنسان والحريات الفردية، ولم يكن معنى ذلك الإغراء بارتكاب الرذائل التى نهى عنها الدين، وانما تُرك الأمر للأخلاق وتقوى الله وليس للقانون. ولكننا نجد أن كل أطياف الإسلام السياسى تسعى فى تصورها للإصلاح القانونى أن يعاقب الناس على أمور أصبحت تدخل فى باب الحريات الشخصية.

&

&

الانتقال الثالث من قمع المعارضة السياسية إلى التصريح بها كانت فلسفة الحكم فى المجتمعات البشرية تقوم على منع المعارضة ووأدها فى مهدها، فكان عدم المبايعة إعلان حرب ينتهى بقتل الممانعين. بالطبع لم يمنع هذا من أن يكون هناك حكام يحققون إصلاحات ويقيمون الأمن والعدل، لأن الحاكم المستبد هو أيضاً يحب أن يرضى عنه شعبه. ولكن سواء رضى الناس أم لم يرضوا، فهم ملزمون بالدعاء له فى معابدهم وكنائسهم ومساجدهم.

&

&

قام الحكم الحديث على مبدأ جديد هو العقد الاجتماعى الذى يقوم على اعتبار أن الشعب هو مصدر السلطات، ويعنى ذلك أنه يلزم أن تخرج للنور كل الاتجاهات السياسية والاقتصادية بكل أطيافها، وأن تجد التعبير السياسى عن نفسها، لأن السياسة أصبحت هى إدارة الصراعات بين المصالح والآراء فى المجتمع بطريقة سلمية، ولكى تكون هذه الإدارة عقلانية ينبغى معرفة الوزن النسبى لكل مجموعة حتى تتم عملية البحث عن الحلول الوسط، ومن هنا لم يعد التنظيم والتظاهر والإضراب خروجاً عن الحاكم، وإنما عناصر مهمة فى العملية السياسية. ومنذ عامين، استضاف أحد مذيعى التليفزيون شيخاً سلفياً، وسأله: بما أنكم سوف تدخلون الانتخابات وتقبلون بحكم الصندوق، هل تكفون عن تكفير الليبراليين والاشتراكيين؟ فقال الشيخ: «الإسلام نظام شامل متكامل، ليس فيه ليبرالية أو اشتراكية، ومن يؤمنون بهذه المذاهب فى ضلال، ومع ذلك أنا لا أقول بقتلهم، لأنهم ربما لا يعرفون أنهم فى ضلال، فمن واجبى أن أبين لهم ذلك حتى يرجعوا عن هذا الطريق». ويتحدث من يعتبرون أنفسهم مفكرين إسلاميين معتدلين عن المشروع الحضارى الإسلامى الذى ينبغى أن يعمل فى إطاره جميع القوى بمن فيهم العلمانيون والمسيحيون. والعلمانيون الذين يعارضون المشروع الإسلامى هم «خارج الشرعية»، أما العلمانيون الذين يقبلون به ولكن لديهم تحفظات على تطبيق الشريعة، فيمكن تبديد مخاوفهم بالحوار. مصطلح الحوار هنا ليس إلا مجرد مهلة للمعارضة لإعلان الطاعة أو استحقاق القتل. هذه انتقالات حاسمة فى تاريخ البشرية الحديث، ولكن الثقافة الإسلامية للأسف وجدت الكثير ممن يعرقلونها، وإذا لم يتم حدوثها فى مجتمعنا بشكل واضح فستنبت حولنا الدواعش فى كل مكان..


&