علي القاسمي

لغياب القوانين تجاه بعض المنغصات المحلية دور في أن تتحول بعض ساحات النقاش والحوار والتواصل لمباريات ملاكمة ومهمات تصفية حسابات، وإن تحدث أحد عن أن هناك رائحة لقوانين حية ترزق فسأقول إنها قوانين تنعم بسبات عميق، ولم تتجاوز حاجز الورق القديم، إلا إلى حاجز ورق نظيف بتاريخ جديد، إحياء التحريض بين وقت وآخر إحياء بغيض، مصحوب بجرأة نثر السم في الشرايين الوطنية، ولا يهدف من يقوم بهذا الفعل إلا من نواياه تتكئ على الخيانة، وطعن النسيج الوطني في مقتل، على رغم ادعائه حسن النوايا في الظاهر، لكنه يسافر برفقة أصدقاء الظلام لتخيلات وطموحات مريضة تنتهي بأن نتحول لحمامات دماء وفتن، لا تكاد تنام إحداهن إلا والأخرى مستيقظة.


لسنا المكان المناسب لممارسة التحريض على فئة هي شريكة في هواء وتراب، ومن يحرّض بشكل مباشر أو غير مباشر يستحق أن يساءل ويوقف عند البدايات الأولى عن إشعال الشرر. المحرضون الذين يتحركون بحرية وكراهية مبطّنة يرون أنفسهم أوصياء وقراء مهرة، لما يجب أن يكون وما يفترض أن يحدث. المحرّض مريض من الداخل حد القدرة على فعل أي شيء، وفوق هذا المرض يعيش حالاً مأسوية نتيجة أزمته الذاتية، تجاه كل رأي مقابل، أو شريحة لا تؤمن بما يقول، ولا تتقاطع مع ما يسطر، أو يدوّن على سبيل تبصير الناس، وشرح المخاطر التي لا يعرفونها، بزعمه أنه الوحيد القادر على استخراجها واصطيادها.


المحرّض المأزوم من الوطنية يدس رأسه متى كانت الحال تستوجب ألا يدس أحد رأسه، بينما هو يقفز هنا وهناك متى ما شعر أن الحال العامة هادئة مطمئنة باعثة على التفاؤل. إذ إن هدفه السري أن يشاهد موت الآخرين، لأنه يراهم آخرين مجردين من كل شيء، فيما هو مستمتع بالآلية والطريقة والتوقيت، ويتمترس لخيبته وراء فكر متطرف وحقد بغيض، لن يذهب بنا إلا لأمكنة ذهبت إليها دول مجاورة، ذاقت خيبات ومرارة هذا الذهاب، ولا يبدو في الأفق على المدى القريب أنها ستعود لسابق عهدها، فهي تشحذ الآن ربع هذا العهد نيابة عن البارود والسلاح والتفجير والاغتيال.


حان وقت تجريم التحريض بصيغة حادة وإنزال من يباركه من على أي منبر، فلن يقف التحريض عند نقاط الجريمة أو العنف أو الطائفة، بل سيتوزع على أكثر من اتجاه صعوداً وهبوطاً، فوراء المحرض جماهير تحلل النصوص، وتشحن الأسطر، وتشرع التوجهات تحت عنوان مستتر، وهو «المجاهرة بإيقاظ الفتن»، هؤلاء ومن يسير على خطاهم تصيبهم حال عطاس شديدة متى ما سمعوا «وطن»، وتأخذهم حمّى إذا جاء الحديث عن «حوار وطني»، ويرعبهم أن تكون علاقة المواطن بوطنه مبهجة مستقرة، هؤلاء يستلذون بأن نعيش على مصطلحات الفرق والأحزاب والجماعات، ومن بعدها «حيا على التناحر»، يريدون من الآخرين أن يتقبلهم بهدوء ويقبِّلَهم بالورود فيما هم عاجزون عن تقبل رأي مخالف، والتعايش مع التنوع الثقافي والفكري والعقدي والديني.


السلم الوطني والاجتماعي يحتاج حملة تنظيف من هذه العينات المتوافرة والماضية بشجاعة لا سيما وأن للتنظيف شرطاً واحداً لا ثاني له: شرطهُ «قوة القانون، وليست بمستحيلة في ظل أن لكل نتوء بشري ضرراً متباين التأثير».