مصطفى الأنصاري

ما من أحد حتى ايران (بحسب قولها على الأقل)، يود أن تكون الانشقاقات والصراعات الاقليمية والوطينية في المنطقة الإسلامية والعربية، ذات بعد أيديولوجي وطائفي ومذهبي، إلا اللهم أولئك الذين يطيب لهم أن ترث أجيال بعد أجيال كوارث القرون السابقة، طوائفها ومعاركها واغتيالاتها وراياتها وما أشبه ذلك.

&

إلا أن الأحداث على الأرض بكل أسف، غدت مطبوعة بذلك اللون الأسود، ما جعل كاتباً عربياً يقول إنه يوم إعدام صدام حسين، ويوم اغتيال الحريري، وقبل ذلك يوم ثورة الخميني، صار الجميع طائفياً أو مذهبياً بصمته أو نطقه. لكن هذا لا يعني الاستسلام لهذا التردي الذي يقسم أسرة واحدة، تكون في مناطق مثل العراق وسورية ولبنان، مُنشأةً من مذهبين وربما ديانتين!

&

هذا تبرير لا بد منه، للقول إن مشكلات "السنة" اليوم في المنطقة العربية، يتحمل أقطاب السنة أنفسهم قبل غرمائهم من المذاهب الأخرى، المسؤولية عنها. سواء كان هؤلاء سياسيين أو مفكرين أو فقهاء أو مجتمعاً مدنياً. يظهر ذلك أكثر عند التساؤل مع الذات: أين تأتي أكثر مشكلات السنة اليوم... من الآخر المتربص (أياً كان) أو من الذات المتآمرة؟

&

يسهل إدانة الخصم أو الآخر بالكيد والتآمر، إلا أن الأخيرة، لا يجعلها أكثر فاعلية مثل الذات عندما تُصلي نفسها سعيرها. لذلك كان التوصيف الأقرب للحالة السنية، ما قاله العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني عن ان حرباً أهلية نشأت داخل الإسلام نفسه. ما يعني أن الذي عليه مسؤولية دفعها بما ملكت يداه هم المسلمون أيضاً، فهم القاتل والمقتول، أفراداً وجماعات ودولاً.

&

البراهين على ذلك كثيرة. واضحة. فها هي ليبيا بوصفها ثاني أكبر خطر عربي بعد سورية على نفسها وجيرانها وأمتها، يدور فيها صراع على السلطة. لو كان بين مذهبين أو ديانتين لفسر ذلك الاختلاف. لكنهم أبناء مذهب فقهي وعقدي الواحد. إلا أن ذلك لم يغن شيئاً.

&

ومثل ذلك يقال عن مصر، فعلى رغم أنها أحسن حالاً، إلا أن ما تشهده المدن المصرية في الأشهر الماضية، لا يفصله عن "الحرب الأهلية"، سوى خيط رفيع، قابل للانقطاع في أي حين، خصوصاً إذا استمر النظام في سياسة قمع كل الأطراف الذين يختلف معهم في وجهات نظر لم يعتد المصريون أن يتفقوا عليها حتى في العهود الماضية.

&

في العراق المتشظي طائفياً، كل المحللين مجمعون على أن رجل "الخلافة"، ما أضر بأحد مثل التيار السني العشائري الذي اتخذ مظلوميته معبراً لطموحاته الدينية والسياسية والثورية. كما أن الأكراد الذين يمثلون مكوناً رئيساً، حتى وإن ظلوا عرقاً آخر، فإن تاريخهم السياسي والديني قديماً وحديثاً، يجعل فصلهم عن "السنة"، لولا سيئات العثمانيين وصدام والبغدادي، ما كان وارداً.

&

حتى على مستوى تركيا التي يجري الحديث عنها، بوصفها الدولة الأقوى اقتصادياً وسياسياً في المرحلة الأخيرة، وذات التاريخ العريق في إعاقة المآرب الإيرانية في ناحيتها من الإقليم، أوهن من فرصها ذلك الصراع المرير بين أهم قوتين إسلاميتين فيها، هما جماعتي "العدالة والتنمية"، وفتح الله غولن. وقل مثل ذلك في باكستان وأفغانستان.

&

ولم يكن الصراع الداخلي بين أبناء البلد والمذهب الفقهي الواحد، هو الصورة الوحيدة في المشهد، إذ "الدول السنية" نفسها التي يفترض بها أن تكون أكثر وعياً وحصانة من الاختلالات الاستراتيجية، هي الأخرى، لم تسلم من الشقاق حتى في اللحظات المصيرية التي تأمل شعوبها أن تعيدها إلى "الاتحاد حول الهويات الكبرى" وغض الطرف عن الخلافات الصغرى. مثلما يرتجى بين تركيا ومصر، والمغرب والجزائر، وقطر وبقية دول الخليج.

&

التحرك السعودي، الذي لا جرم أنه يستحضر هذا التحدي، والآخر الجزائري والمغربي نحو الأزمة الليبية على رغم الخلاف السياسي، هو البداية الصحيحة، التي ينبغي أن تستجيب معها التيارات والجماعات والدول والأحزاب في تلك البلدان وسواها، فتمارس نقداً للذات، ومراجعة لخطواتها، قبل أن تفكر في حراسة كرامتها، التي سلبت من الأقربين قبل أبعد الأبعدين.
&