صالح عبد الرحمن المانع

تشهد العاصمة السعودية هذه الأيام زيارات لعددٍ من رؤساء العالم وقادته، ففي البداية كانت هذه الزيارات لتقديم التعازي في الراحل الملك عبدالله بن عبدالعزيز. غير أنّ كثافة هذه الزيارات فيما بعد، خاصةً من قِبل الرئيسين أوباما وأولاند وغيرهما، كانت مؤشراً على حرص هذه الدول على زيادة التواصل مع القيادة السعودية الجديدة لضمان استمرار أُطر التعاون والتنسيق التي وضعها الملك الراحل عبدالله.

&


غير أنّ مثل هذه الزيارات لم تكن فقط زيارات للمجاملة، فهي تعكس رغبة السعودية نفسها في تمتين علاقاتها بحلفائها، وإعادة التموضع الإقليمي لمواجهة التحديات التي تمثلها بعض الحركات السياسية التي تحمل طابعاً دينياً متطرفاً، مثل «داعش»، أو تدعو إلى حمل لواء الطائفية في اليمن والعراق وسوريا وغيرها. ومن هنا كانت زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى الرياض.

فلقد كانت العلاقات السعودية- التركية علاقات طيبة منذ عام 1980، فقد سعت المملكة إلى التنسيق مع أنقرة في السبعينيات والثمانينيات، ودعمت العديد من المشاريع التنموية في تركيا، عبر اللجنة السعودية- التركية المشتركة، التي أُسِّست عام 1981. وعبر تلك اللجنة، تدفّقت استثمارات سعودية ضخمة إلى تركيا، وقامت العديد من الشركات التركية ببناء كثير من الطرق والأنفاق في العاصمة المقدسة، مكة المكرمة، وفي المدينة المنورة. وعمِلَ في المملكة زهاء 70 ألف مواطن تركي، معظمهم يملك أعماله ومؤسساته التجارية. وكانت تركيا أول دولة يزورها الملك عبدالله بداية توليه الحكم عام 2006، حيث لم يزر أنقرة عاهل سعودي من قبل منذ أربعين عاماً، أي منذ حكم الملك فيصل آل سعود. وكان هناك الكثير من الحديث في فترة من الفترات عن تحالفٍ سعودي- تركي مرتقب.

غير أنّ أحداث «الربيع العربي»، وإقصاء عدد من الزعماء العرب في مصر وتونس وليبيا وغيرها، وما نتج عنه من تفاقم مفاجئ لحركات الإسلام السياسي مثل «الإخوان المسلمين» في مصر، أدّى إلى انتهاء ما سُمِّي بشهر العسل السعودي- التركي. فقد اختارت السعودية التعامل مع هذه الأحداث من منظور أمني- اقتصادي، بينما اختارت القيادة التركية التعامل معها من منظور إيديولوجي ومصلحي بحت.

وأدّى هذا التباين في رؤية المتغيرات السياسية على الأرض، خاصةً في الموقف المعادي للحكومة المصرية الجديدة من قبل حكومة أردوغان، إلى برود في العلاقة الثنائية بين السعودية وتركيا. غير أن هذا البرود اقتصر فقط على العلاقات الدبلوماسية، بينما زادت العلاقات التجارية بين الطرفين، ووصلت إلى 8 مليارات دولار في السنة. وفي أواخر العام الماضي، نجحت شركة «أكوا» السعودية الخاصة بالطاقة، على سبيل المثال، في استثمار نحو مليار دولار في محطة للطاقة تعمل بالغاز في منطقة الأناضول. كما استمرّ تدفق السياح السعوديين على إسطنبول، وكذلك الاستثمارات في مجال العقار والبناء في تركيا. ووقّع الجانبان التركي والسعودي اتفاقاً دفاعياً صناعياً في مايو عام 2013.

وخلال الشهرين الماضيين، زار الرياض ثلاثة وزراء أتراك، وكانت الرسالة واضحة، بأنّ القيادة التركية، وكذا السعودية، ترغبان في إعادة ضخّ الحياة في الشرايين الدبلوماسية الثنائية. ولعلّ ما يربط أنقرة والرياض أكبر بكثير مما يفصلهما، فكلتاهما حريصان على مستقبل سوريا ورؤيتها بعيداً عن هيمنة الأسد وزمرته، وكلتاهما حريصان على تقليص النفوذ الإيراني المتعاظم في المنطقة، سواءً في العراق أو في اليمن أو في الشام أو لبنان. ولعلّ بعض نقاط الاختلاف لا تكون عقبة في طريق التعاون المستقبلي بين الجانبين. فمن مصلحة الطرفين عدم استغلال إيران لأوضاع الدول الفاشلة في العراق واليمن وسوريا لتوسيع نفوذها على حساب القوتين الرئيسيتين في المنطقة، السعودية وتركيا.

كما أنّ النفوذ القوي لكِلا البلدين في العواصم الغربية، بغضّ النظر عمّا نشهده بين فينةٍ وأخرى من تجاذب وأخذ ورد على صفحات الإعلام، يمكن أن يكون مؤثراً على تلك العواصم، خاصةً حين تشهد المنطقة الاتفاق المحتمل بين الولايات المتحدة وإيران. والذي قد يجعل الولايات المتحدة وأوروبا حريصتين على استغلال الانقطاع الطويل عن السوق الإيراني، والحصول على إمدادات الغاز الإيراني.

ومن هنا كانت أهمية إعادة التنسيق والتعاون بين الرياض وأنقرة لرسم تموضع استراتيجي جديد في المنطقة، يخدم مصالح كِلا البلدين، ويجنّب المنطقة مزيداً من المغامرات والتوسّع الإيراني في الدول العربية الرخوة.
&