عبدالله بن بجاد العتيبي

الجهل يُعادي العلم، والعنف يرفض السلم، والتعصب يحارب التسامح، كل هذه أبعاد يمكن من خلالها قراءة ما صنعه تنظيم «داعش» في العراق والشام من تحطيم لآثار عراقية ضاربة الأطناب في التاريخ، سواء في متحف الموصل أم في مدينة النمرود الأثرية.

&

إن هؤلاء الدواعش ليسوا سوى إرهابيين ينتمون لتاريخ طويل من الجهل والتعصب والعنف موجودٍ في العديد من الأمم، جهلةٌ حاربوا العلم في الإسكندرية، وأحرقوا مكتبتها في قديم التاريخ، وتتارٌ غاشمون دخلوا بغداد الحضارة، وأفسدوا كتبها وحضارتها، وكنيسةٌ كانت تحرق الكتب وتقيم للكتاب والمفكرين محاكم تفتيشٍ وتعذيبٍ في السياق الأوروبي، وصولاً للعصر الحديث حين قامت حركة «طالبان» بتفجير تماثيل «باميان» في أفغانستان، وقام تنظيم «القاعدة» في المغرب العربي بحرق الكتب وهدم الآثار في «تمبكتو» عاصمة مالي. لقد أعلن العالم الحديث بدوله ومؤسساته استنكاره لهذه الجريمة، واعتبرها مجلس الأمن الدولي «جريمة حربٍ»، وهي بالفعل كذلك وجريمة في حق الإنسانية، وجريمة بكل المقاييس والمعايير، واستنكرت منظمة اليونسكو الدولية هذه الأعمال الوحشية المتخلفة، وفعلت الأمر ذاته غالب الدول العربية والإسلامية ودول العالم أجمع.

دينياً، ليس من الإسلام في شيء محاربة الآثار التي بقيت لقرونٍ متطاولةٍ شاهداً على حضاراتٍ أممٍ وشعوبٍ كانت لها إبداعاتها – كلٌ في مجاله - في سياق التطوير البشري، وقد مرّ الرسول الكريم بمدائن صالح، وهي كما نراها اليوم مليئةٌ بالنقوش والرسوم والآثار، فلم يمسها بسوء ولم يهدم أو يخرب شيئاً منها.

تشتهر العراق وبلاد الشام عموماً ومصر بآثارها الكثيرة ومتاحفها الكبرى، وهو أمر معروف لمن زار تلك البلدان أو درس شيئاً من تاريخها، أو رأى برامج عن آثارها، وهي باقية على ما هي عليه من آلاف السنين، وقد مرّ بها الصحابة والتابعون فلم يتعرضوا لها بأذى، وبقيت كبارها وصغارها إلى يوم الناس هذا شاهداً على أمم قضت وحضارات فنيت يستفاد منها العلم والخبرة والعبرة.

هذا واحدٌ من الأدلة على أن تنظيم «داعش» هو تنظيم إرهابي يمثل امتداداً لخطاب تنظيم «القاعدة» وحركة «طالبان» اللذين شوها صورة الإسلام، وقصراه على الإرهاب والتخريب، والتفجير والتدمير، وأن هذا الفعل يضيف جانباً أسود لهذا التنظيم ومثيلاته، مع التأكيد على سوداوية وانحراف هذه التنظيمات في المجالات الأخرى.

يعلم الكثيرون قصة اكتشاف «حجر رشيد»، الذي كتب بثلاث لغات قديمة، هي الهيروغليفية والديموطيقية، أو القبطية واليونانية، وكيف تمكن العلماء بسبب هذا الحجر المهم من كشف كنوز اللغة الفرعونية القديمة واكتشاف الحضارة الفرعونية وتفاصيل تاريخها وملوكها، وهو حجرٌ لو وقع في يد «داعش» لدمرته غير عابئة بما يحمله من فتوحٍ علميةٍ، وما يصح في هذا يصح في كثيرٍ من الآثار التي لم تزل تمثل كشوفاً مستمرةً لحضارات وعلوم وتواريخ ضاربة القدم في التاريخ.

إن «تنظيم داعش» الإرهابي يتوسع خارج العراق والشام، فهو موجود في مصر وليبيا، وفي أفريقيا التي أعلن تنظيم «بوكو حرام» الإرهابي بيعته لخليفة «داعش» المزعوم، كما أشارت بعض التقارير وجودها في أفغانستان، ومبايعة بعض قيادات حركة «طالبان» لها، وهي تتحضر للدخول في اليمن في ظل الفوضى، وكل ذلك ينبئ بخطورة التنظيم على الأمن والاستقرار الدوليين، كما يحذر من خطورة كبيرةٍ على الإرث العالمي من الآثار في قارتين على الأقل، هما آسيا وأفريقيا.

قامت «طالبان» بتدمير تماثيل «باميان» في أفغانستان عام 1998، وقامت «أنصار الدين» في مالي بإحراق وتخريب العديد من المخطوطات والكتب التاريخية القديمة في تمبكتو عاصمة مالي عام 2013. وقام تنظيم «داعش» بتدمير متحف الموصل ومدينة نمرود الأثرية عام 2015، وما هو مثير هو أن جدلاً فقهياً واسعاً دار في المرة الأولى، ولكنّه قلّ في المرة الثانية وهو لا يكاد يذكر اليوم مع جريمة «داعش» النكراء، ما يمنح مؤشراً سلبياً ويشير لتقهقرٍ حضاريٍ وتخلفٍ فقهيٍ في مواجهة إرهابٍ يزداد عنفاً وشراسةً وينحدر من الأصولية إلى الطائفية.

أخيراً، فإن خطاب هذه التنظيمات الإرهابية يقوم على الكراهية السوداء، كراهية الأديان وكراهية التاريخ، كراهية البشر والحجر، الإنسان والحضارة، وقتلاهم في غالبيتهم من المسلمين الذين يزعمون الدفاع عنهم، بل ويتركز بأسهم ووحشيتهم على أهل السُنة من المسلمين، وهم يهتفون باسمهم ويزعمون تمثيلهم، وهذه الكراهية تتفشى كوباء يكاد يحرق العالم بأسره، ما لم يتصد الجميع له.
&