علي القاسمي

توقفت عند سهرة فنية لحفلة غنائية لفنان العرب في الجارة الشقيقة «الكويت» مساء ما قبل البارحة. لم أكن أملك حينها الوقت الكافي لـ«الفُرْجة» التامة الكاملة، كما يقول أشقاؤنا في المغرب العربي أو للمتعة و«الروقان» كما نردد نحن السعوديين، فضلاً عن أني من الزاوية الأدق عاشق قديم متجدد لصوت الأرض الراحل طلال مداح، بمعية هذه السهرة ظللت مبتسماً - بقدر وافر من التساؤلات البريئة - للحضور السعودي اللافت لهذه السهرة الطربية الفاخرة وأعرف - بالاسم - أصدقاء حضروا للكويت تحديداً، لأجل أن يكونوا بالقرب من «المعاناة»، «بنت النور»، «مالي ومال الناس»، «سيد الغنادير».

&

بوصفنا «سعوديين» نغضب إن استعار منا أحد لقب فنان العرب، ولن أقول «سَرق»، فلهذا الفنان جماهيرية عريضة جداً، والذاكرة السعودية تحتفظ بصوته كحال طربية استثناء في عقد طويل، حضر في الأغنية العربية والخليجية والوطنية، وذهب في الزمن القريب لمصالح مشتركة إلى مصافحة الأناشيد الإسلامية وعشاقها وأهلها الذين يميلون للطرب والصوت الأخَّاذ فأحضروه بالطريقة التي تبيحه برأيهم، وتجعلهم في معزل عن من يصادمهم، ويسائلهم عن هذا التدرج في الطرح والهدوء المصاحب لما لم يكن يقبل ولو ربع ذرة من الهدوء.

&

نعود للمفصل من الحكاية فخصوصيتنا السعودية طيبة الذكر قدّمت للمشهد الغنائي فناناً ذا شعبية طاغية أطلق عليه اسم «فنان العرب»، وقالت هذه الخصوصية للمندهشين منها إننا نملك أكبر وأضخم شركات التوزيع الفني، وحكت بسعادة وخبث للمتابعين بعمق في سطر لافت آخر أن جلّ من يحجز كراسي المقدمة والمؤخرة في الحفلات الفنية المجاورة هم «عيالنا» بالنطق الشعبي الأكثر رواجاً، ولا تسألوني عن عدد الفنانين ولا الشعراء الغنائيين، فنحن شعب طربي بالفطرة، وإن تظاهرنا بغير ذلك.

&

سيسحب طرحي هذا، القراء من فئة «أنا أكرهك في الله» للزوايا الضيقة والعبث بالجمل والمفردات واختصار الحكايات في هذه الزوايا، تغييب العقل لم يعد صالحاً في هذا الزمن، فنحن أمام دائرتين حادتين، أولاهما: أن كثيراً من الآذان التي تلقت منذ 40 عاماً نصوص التحريم والكراهية والبغض والتشديد كانت تدخل هذه النصوص من الأذن اليمنى وتخرجها من الجهة المقابلة، في محاولة وقتية للخلاص من تصنيف أو اتهام، وثانيهما: أن الخطاب الديني ركز في هذه السنوات الطويلة على القشور من القضايا الخلافية وطرحها بوصفها كوارث ومآسي، وحارب من ساندها أو طرح سعة من الأمر فيها، خشية أن تهتز وتضرب الجماهيرية في مقتل، ويستيقظ الذين اعتادوا السماع والتطبيق أكثر من أي شيء آخر ليذهبوا لما هو أهم وأشد ضرراً وخطورة. الحياة فسيحة للدرجة التي لا تستحق أن نقاتل فيها الفرح على حساب الحزن، ولا أن ندقق في الهامش الشخصي على حساب السطر المحفز للعداء والكره وهدم الروح، ولا تستحق أيضاً أن نتجاهل الجراح الكبيرة لنتفرغ بالحكم على عشاق الطرب والحب والفن بالخروج عن الطريق المستقيم، ونرميهم بما تيسر من المفردات والأحكام القاطعة، كما لو كانت مفاتيح الجنة والنار بيد أحدنا من الفرق الناجية أو المتبرعين بالفتوى من غير منبر، ملءُ المجتمع بأحكام التحريم وغض الطرف عن مصطلحات التكفير والتطرف والتشدد والكراهية وزراعة الطائفية يروج لمربعات مختنقة، وقابلة للانفجار، ويعيد تشكيلها باختلاف التعابير والتفاسير، وليت أنا نبذل في تفكيك هذه المصطلحات ربع ما بذلناه لعقود من الزمن في التشديد على حرمة الأغاني، لأن ثمن من آمن أنها واحدة من أهم العناوين في السيرة الذاتية للمسلم، وسطَّح بمعية هذا العنوان وعينا العام وغيّبه عن الأهم والأهم والأهم!
&