عبد الوهاب بدرخان

قد تكون الصدفة، وقد تكون طبيعة البلد، لكن تونس لا تزال مختبراً متقدّماً للتحوّلات في العالم العربي، إذ شهد مهد الهبّات الشعبية، التي ألهمت كل الانتفاضات التي تلتها، مختلف التجارب التي تواصل البلدان التي أسقطت أنظمتها السابقة التخبّط فيها، وإنْ انفردت تونس أولاًً بإبقاء العنف في حدود معينة، ثم بتغليب الحوار لتفاديه. كما نجحت في تحجيم التطرّف لمصلحة عبور صناديق الاقتراع من أجل التناوب على الحكم، فباشرت بعد الانتخابات الأخيرة بناء استقرارها إنهاض اقتصادها. وخلال هذا التحوّل وتشنجاته ظهر العنف الإرهابي، مستفيداً أولاً من جو الحريّات، وثانياً من سلطةٍ خارجةٍ من رحم تيار الإسلام السياسي أُخذت بـ «حسن الظن» أو بـ «التعاطف»، فأرادت أن تمنح المتطرفين فرصة للانضواء في مسار البلد، وربما اعتقدت أن الحوار مع هؤلاء يمكن أن يعالج تشدّدهم، لذلك ساد الاعتقاد لفترة بأن ما سمّي بـ«الربيع العربي» الواعد بالديمقراطية والمشاركة والعدالة يمكن أن يكون رسم خط النهاية لتنظيمات الإرهاب، قاطعاً العشب من تحتها، ومبدداً الذرائع والمبررات التي أسبغتها على «جهادها».

لكن الإرهاب ما لبث أن عاد، بقوة وإصرار، خلال الحكم الذي هيمنت عليه حركة «النهضة» ذات العقيدة «الإخوانية» المنقّحة، بل ارتكب انتهاكاتٍ كثيرة وصولاً إلى الاغتيالات السياسية، لكن المواجهة مع الجيش والأمن اضطرّته للانكفاء إلى الجبال الحدودية الرابطة بين تونس والجزائر. حاولت التنظيمات الإرهابية استغلال الأزمة السياسية التي احتدمت منتصف 2013 واستمر معظم 2014، فما كان على المحك آنذاك هو طبيعة النظام الجديد ومَن يقول الكلمة الأخيرة: العلمانيون أم الإسلاميون. وبطبيعة الحال كانت جماعات الإرهاب تعادي العلمانيين على نحو واضح وصريح، وتنابذ الإسلاميين لأنهم في نظرها فرّطوا بالفرصة التي أتيحت لهم وتراجعوا عن إقامة «حكم الإسلام»، الذي كان «الجهاديون» يخططون لاختراقه تمهيداً لامتطائه واجتذابه إلى نموذجهم في «تطبيق الشريعة». ورغم أن الانتخابات الأخيرة، التشريعية ثم الرئاسية، لم تكن في مصلحة حركة «النهضة» ولا الإسلام السياسي، إلا أن حلول «النهضة» في المرتبة الثانية في البرلمان وحصولها على تكتّل كبير فيه كرّس وجودها في المشهد السياسي ومنحها إمكان القيام بدور ففضّلت أن يكون هذا الدور في إطار الموالاة بدلاً من المعارضة، ما رجّح خيار حكومة الوحدة الوطنية التي جمع فيها حزب «نداء تونس» الغالبية العظمى من الأطياف السياسية. وعموماً شكّلت هذه التجربة رسالة في أكثر من اتجاه، مفادها أن الوقت غير مؤاتٍ لـ«اللعبة» السياسية، فلا موالاة ولا معارضة بل توافق على العمل لاستعادة العافية الاقتصادية والأمنية على طريق الاستقرار السياسي.

&

أقرّ وزير الخارجية التونسي الطيّب البكوش بأن حكومة بلاده قد أخطأت بـ «الاسترخاء» استناداً إلى الوئام السياسي الذي حظيت به. فالهجوم الإرهابي على السياح في متحف «باردو» في قلب العاصمة أنهى الهدوء وأيقظ هذه الحكومة على الواقع المرير: هل أصبح الارهاب الأعمى جزءاً من حقائق البلد؟ تلك هي ارتدادات الأخطاء التي ارتكبت في بناء العقيدة الأمنية الجديدة بعد سقوط عقيدة النظام السابق الذي بالغ في أمنيّته وفي اساءة استخدامها حتى صارت ظلماً خالصاً. فقد ساهمت شدّته في تأسيس التطرّف واصطناعه وتأجيجه، كما في اجبار ضحاياه على التواري الى حيث تلقفهم «الدعاة» التكفيريون. فما أن سقط النظام حتى خرج المتطرفون من تحت الأرض، وراحوا يبحثون في سوريا وليبيا عن سبل لإحداث التغيير بالطريقة التي تلقنّوها. وفي كل الأحوال، بات المقصدان مترابطين الآن فيما يشبه «انترناسيونال الارهاب».

ها هي تونس تعترك في مخاض تحدٍّ جديد قد يكون الأكبر: هل أن الديمقراطية هي نقيض الإرهاب، والردّ الأسلم عليه، وهل صحيح أنها تعزز مناعة المجتمع ضد احتضانه؟ ألم ينجح الإرهاب أخيراً في اثبات عكس كل ذلك، وهل يستطيع تخريب الانجاز الديمقراطي؟ لا يمكن الإجابة عن ذلك إلا باستيعاب التجربة واحتواء التطرّف وإعطاء الديمقراطية وقتها وفرصتها كي تثبت ما تستطيعه. وفي كل الأحوال، ليس هناك بديل آخر، فحيثما كان هناك استبداد لوقت طويل ما لبث أن صار هناك إرهاب، وقد يستمر وقتاً طويلاً إذا تباطأت إجراءات التحوّل الديمقراطي أو أُبطئت. ولا شك أن تونس ستتمكّن مرة أخرى من صنع نموذج يحتذى.
&