حسين شبكشي


برحيل مؤسس دولة سنغافورة لي كوان يوو، يكون العالم قد فقد أحد أهم رجال الدولة والقادة المؤثرين بلا جدال ولا شك.


هذا الرجل الذي حول هذه الجزيرة الصغيرة جدا في القارة الآسيوية، والتي لم يكن لها أي قيمة ولا منفعة سوى كونها مركزا للصيادين والتهريب. احتلت الجزيرة من قبل الإنجليز، وكانت جزءا من الاستعمار البريطاني المنتشر حول العالم عموما وفي آسيا تحديدا، وعند استقلال ماليزيا رفضت ماليزيا أن تكون سنغافورة جزءا منها، وانطلق لي كوان يوو يؤسس بحسب ما وصفها ذات يوم «دولة ما كان يجب لها أن تكون، ولا يمكن أن تكون لأننا لا نملك مقومات لذلك». كان يتحدث عن شروط بديهية وأساسية وأبجدية لمسألة تأسيس كيان الدولة: وجود شعب متجانس ولغة مشتركة بينهم وثقافة موحدة مشتركة وهدف واحد مشترك.


سنغافورة كانت عكس كل ذلك تماما. كانت خليطا عجيبا من أهل المالاوي والصينيين والهنود مجتمعين فوق جزيرة بلا أي موارد طبيعية أبدا. هناك في المنطقة القديمة من سنغافورة مصعد «أثري» في داخله لوحة صغيرة مكتوب عليها «يرجى عدم التبول داخل المصعد»، مما يعني أن هذه المشكلة كانت موجودة في فترة من الفترات، ولذلك كان اهتمام لي كوان يوو بالنظافة في بلده شبه أسطوري، وتحول مع الوقت مضربا للأمثال من صرامة القوانين وشدة العقوبات، فكان عقوبة عدم شد «السايفون» بالحمامات العامة تبلغ 500 دولار، وإلقاء النفايات نفس المبلغ، حتى أنه منع «العلكة»، لأنها تضيع وقت عامل النظافة في إزالتها، كما أنها تتسبب في تعطيل أبواب المترو حينما يضعها ماضغوها داخل الباب!
نعم هكذا كان مهووسا بالتفاصيل. اهتم بتطوير البنى التحتية حتى أصبح مطار سنغافورة وميناؤها الأفضل في العالم، وكذلك شركة الاتصالات الهاتفية وشركة إدارة الموانئ وشركة الطيران، فهي كانت نموذج الأعمال الأساسي التي بنت عليه دبي تجربتها الناجحة، التي يعيش العالم حصادها اليوم.


نجح لي كوان يوو في قراءة المشهد السياسي بشكل عبقري، وعرف أن اتجاه البوصلة يسير باتجاه الصين التي تحررت بالتدريج من نظامها الشيوعي المغلق، وقررت الانفتاح على السوق المفتوحة والتركيز على السوق الصينية بقوة، وإدخال تدريس المادة الصينية بشكل أساسي في المدارس مع اللغة الإنجليزية، فهو حافظ على علاقات وثيقة جدا مع المعسكر الغربي، واستفاد بشكل عظيم من العلاقات مع الغرب لتقوية القطاع الأمني والعسكري والتعليمي والصحي والمصرفي.


كل ذلك انعكس على تطور عظيم في مدخولات الدولة وأصبحت مركزا للاقتصاد الصناعي البسيط. ومع العولمة قرر الرجل أن المزايا التنافسية لا مكان لها ضد الصين وفيتنام وكوريا، وبالتالي قرر الخروج من دائرة الاقتصاد التصنيعي والاعتماد بشكل كامل على الاقتصاد الخدمي، وتحولت سنغافورة مع الوقت إلى مركز مهم للغاية للسياحة والمصارف والمعارض والاقتصاد المصرفي وإعادة التصدير وغيرها من الخدمات مع الاحتفاظ بمزايا أمنية هائلة حولتها إلى سويسرا الشرق بلا منازع.


روج لي كوان يوو على الدوام لما أطلق عليه مسمى «القيم الآسيوية»، وهي حزمة من المفاهيم الأخلاقية والسلوكية والتي تختلف تماما للقيم الغربية، والتي تؤمن بحرية الفرد في الحياة وحريته في التعبير حتى ولو كانت على حساب قيم وسوية المجتمع. القيم الآسيوية تقلل من أهمية الحرية الفردية، إذا كانت على حساب صلاح وصالح المجتمع الذي سيشمل الكل بحسب ما قال.


كان من أهم من آمن ونادى بضرورة تحسين وتطوير الذات بشكل متواصل ومستمر، والتركيز على ذلك على أنه «قيمة» في حد ذاتها مثل تحريض السنغافوريين على الابتسام وتعلم اللغة الإنجليزية، والاعتناء بالنظافة وعدم البصق في الشوارع. تحولت البلاد إلى أنموذج في التمدن والنظام والنظافة في زمن قياسي، وأصبحت من الأماكن التي يضرب بها المثل في الرفاهية والعيش الكريم اللائق، وسخر كثير من المعلقين على هذه القوانين ووصفت بالغرابة، ورد لي كوان يوو على ذلك وعلى الضحكات الساخرة بقوله: «دعهم يضحكون لو لم نقم بهذه الجهود، لأصبحت شوارعنا قذرة وشخصيتنا وقحة»، وكانت له الضحكة في النهاية، ضحكة المنتصر.


كتب وجهة نظره في الحكم في كتاب عظيم: «الانتقال إلى العالم الأول»، ويعتبر من أهم الكتب في عالم السياسة والاقتصاد والاجتماع. ترك المنصب وهو في القمة وسلم السلطة وأشرف على الانتقال السلمي لها بحكمة. رحل عن الدنيا والناس وشعبه يحترمونه ويفتقدونه كما يغادر كبار الرجال.

&


&