محمد عارف
&
في واقع العالم اليوم من الخيال أكثر مما في الأحلام، وإلا فمن يتخيل تسابق أعرق الدول الرأسمالية، بريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا، للانضمام إلى «البنك الآسيوي للهياكل الارتكازية» الذي خصَّصت له الصين الشيوعية خمسين مليار دولار، ومن يتوقع أن تخصص الصين غير المسلمة 40 مليار دولار لإحياء «طريق الحرير» الذي شهد العصور الذهبية الإسلامية؟ إقليم خينشانغ ذو الأغلبية المسلمة في الصين، بوابة «طريق الحرير»، الذي ينشئ هياكل ارتكازية للسكك الحديدية، والطرق البرية، والموانئ، ومحطات الطاقة، وتكنولوجيا المعلومات، ومتنزهات العلوم والصناعة.. التي ستمتد عبر حزام الدول الإسلامية، كازاخستان وقرغيزستان وطاجكستان وباكستان وإيران وتركيا وسوريا والعراق، إلى عواصم جنوب وشمال أوروبا وميناء روتردام في هولندا. وبموازاة الطريق البري طريق بحري عابر للقارات والمحيطات، من الهادئ والهندي، مروراً بموانئ شبه الجزيرة العربية والبحر الأحمر، صعوداً إلى البحر المتوسط، ودول البلقان، وحتى روتردام.
&
خرائط «طريق الحرير» يعرضها «منتدى بواو الآسيوي» الذي يُعقد نهاية هذا الشهر، في إقليم «هنان» جنوب الصين. وشعار المؤتمر «مستقبل آسيا الجديد: نحو مجتمع مشترك المصير». وموقف واشنطن من مستقبل آسيا كموقفها من أي شأن آخر؛ «لا أعرف ماذا أريد، لكني مستعد لعضِّ أياً كان للحصول عليه»، حسب المفكر الأميركي ويل روجرز. وفي افتتاحية عنوانها «حلفاء الولايات المتحدة يغويهم بنك الصين»، تُقر «نيويورك تايمز» بأن «المشكلة إلى حد بعيد من صنع أميركا، التي كانت تحثّ الصين على ممارسة زعامة أكبر، بينما المناصب العليا في صندوق النقد والبنك الدوليين حكر على الغربيين واليابانيين. وتلوم الصحيفة الكونجرس الأميركي، الذي رفض تمرير قرار يجعل حق التصويت في «الصندوق» أكثر إنصافاً للدول الأعضاء، وانتهى الأمر بواشنطن دون خطة للتعامل مع البنك الجديد.
&
ولا تضع ثقتك بالبنوك، بل ضع البنوك في ثقتك. والثقة سبب «حمى الذهب» الصينية التي جعلت دول أوروبا الغربية الكبرى تتنافس على عضوية البنك الجديد، ولثقتها بالصين خانت بريطانيا حليفتها الأولى واشنطن، وفاوضت بكين لتمويل محطاتها النووية الجديدة، ولاختيار لندن مركزاً عالمياً لتبادل عملة «اليوان» الصينية. و«البنك الآسيوي للهياكل الارتكازية» لا يهدف لإزاحة البنك الدولي وبنك آسيا للتنمية اللذين تسيطر عليهما الولايات المتحدة وأوروبا، بل لـ«التعلم من تجربتهما.. وفي العالم أكثر مما يكفي من مشاريع تبحث عمّن يمولّها»، حسب وكالة الصين الرسمية «شينخوا».
&
و«طريق الحرير» ليس عزفاً منفرداً، بل سمفونية تشارك فيها عشرات الدول الأوروآسيوية. ذكر ذلك وزير خارجية الصين «وانغ يي» الذي اعترض على اعتبار الإعلام الغربي الطريق «مشروع مارشال الصيني»، وقال إنه أقدم من «مشروع مارشال» وأحدث منه في آن معاً. فهو «ممر التجارة الدولية قبل أكثر من ألفي عام، ويعود اليوم في عصر العولمة كنتاج للتعاون الشامل، وليس كأداة جيوسياسية، ولا ينبغي التعامل معه بأخلاقيات الحرب الباردة الهرمة». و«مشروع مارشال» أقام «حلف الناتو» العسكري، لاحتواء بلدان أوروبا الغربية وإقصاء باقي العالم، فيما يُدني «طريق الحرير» الاقتصادات ويحتضنها على امتداد خطوطه البرية والبحرية، بغض النظر عن توجهاتها الأيديولوجية والاجتماعية. والمبادرة الصينية ليست وكالة مساعدات، بل تقوم على أساس مبادئ السوق، وتنتظر مردوداً للمساهمين فيها، وبينهم «صندوق الاحتياطات الخارجية الصيني»، و«الشركة الصينية للاستثمارات»، و«بنك الصادرات والاستيرادات الصيني»، و«بنك التنمية الصيني».
&
وتحقق الصين أهم ما توقعه ماركس: «انتصار قوة العمل على قوة رأس المال». وقوةُ عمل الصينيين جعلت بلدهم الذي كان يعاني المجاعات حتى منتصف القرن الماضي، مالك أكبر احتياطيات مالية في العالم، أربعة أضعاف اليابان التي تليه في قائمة أكبر المالكين. لكن على خلاف توقعات ماركس لم تحقق ذلك «دكتاتورية البروليتاريا»، بل حكمة كونفشيوس الصينية العريقة، التي تقول «من السهل أن تكره، ومن الصعب أن تحب. وهذه طريقة العمل بالكامل، جميع الأشياء الجيدة يصعب منالها، والأمور السيئة سهلة التناول». والحب الصعب «طريق الحرير».