عبد الوهاب بدرخان
&
هل هناك استراتيجية عربية للتعامل مع التحدّيات والأخطار؟ لا... هل تتوصل القمة العربية الـ 26 الى إقرار استراتيجية كهذه؟ الأرجح لا أيضاً. لم تكن هناك مقدّمات، ومع ذلك سنرى. ربما تحاول. ربما تبدأ. ربما تضع تصوّراً. لكنها متأخرة قياساً الى الواقع. كانت أربعة عقود من الصراع مع اسرائيل استهلكت في وضع تصوّرات وانتهت الى «تعايش» قسري مع احتلال الأمر الواقع منذ ما يزيد على خمسة وعشرين عاماً. أما الصراع الآخر المستجدّ، مع ايران، فلا يزال العرب يخوضونه مشوّشين وعلى خجل، على رغم أن الحصيلة التي لا تزال مفتوحة للعدوانية الفارسية التي فاقت الآن - بالمقارنة التفصيلية - نتائج العدوانية الصهيونية بأشواط بعيدة.
&
لا مفاضلة بين ايران واسرائيل، كما قد يرى البعض، فهما متعاديتان علناً على تقاسم الهيمنة على المنطقة لا بسبب فلسطين، ومتفقتان ضمناً على أن يكون العالم العربي ضعيفاً وساحة لنفوذهما. فإسرائيل حاربت العرب لابتلاع فلسطين، وايران حاربت اسرائيل بالوكالة (من خلال «حزب الله») لابتلاع العراق وسورية ولبنان واليمن و... و... بل إنهما تتنافسان حالياً على أيّهما يمكن أن تكون أكثر جدوى للولايات المتحدة في ادارة الاقليم.
&
كانت اميركا وفّرت لاسرائيل دعماً بلا سقف لتمكينها من هزم العرب، واستخدمت نفوذها الهائل لتفرض في ثوابت العلاقات الدولية (تحديداً مع روسيا) اعترافاً بتفوق عسكري دائم لإسرائيل، بل عملت على الدوام بصفتها «اختراقاً اسرائيلياً» للعواصم العربية ومراقباً مؤثراً في قراراتها.
&
وكما عملت السياسة الاميركية على تجنيب إسرائيل أي ادانة أو عقوبات، بذريعة أن أمنها في خطر، فإنها تنهج حالياً مقاربة خبيثة وملتبسة حيال «النفوذ الايراني» وكأنها تؤمن له «الحماية» و «التمكين» لتحصّنه وترسّخه. اذ حصرت واشنطن بالملف النووي خلافها الثنائي (والدولي) مع طهران، وكذلك العقوبات، ليكون حلّ أزمته مفتاحاً لـ «تطبيع» واسع لا يقتصر على الدولتين فحسب بل ينسحب على منظومتي علاقاتهما، فلا «تطبيع» حقيقياً إلا اذا بُني على تعهّدين متبادلين: التزام طهران عدم التعرّض للمصالح الاميركية ولأمن اسرائيل، والتزام الولايات المتحدة عدم التعرّض للمصالح الايرانية (كما تتراءى راهناً) وبالأخص في «عاصمة الامبراطورية» بغداد ووصيفاتها دمشق وبيروت وصنعاء. وفي إطار تعاهد محتمل كهذا تصبح التدخلات الإيرانية الأخرى في الخليج وغيره مجرد تداخل مصالح اميركية - ايرانية يمكن الطرفين التفاهم على توازناته كما فعلا منذ أعوام في العراق، مع فارق أن التصاق النفوذ الايراني بالأرض من خلال ميليشياتها المذهبية ضاعف مكاسبها وتحكّمها بالعراق.
&
اذا سألتَ المعنيين بالإعداد للقمة العربية في شرم الشيخ عن المحور الأهم الذي يشغل القادة العرب، يجيبون: انه الإرهاب، طبعاً. ولذلك، يضيفون، سيصار الى البحث في انشاء «قوة عربية مشتركة لمحاربة الارهاب». وإلى أي حدّ باتت هذه «القوة» مشروعاً قابلاً للتطبيق؟ وهل المقصود مشاركة في «الحرب على داعش» في سورية والعراق؟ هنا تتبعثر الاجابات في كل اتجاه، بعضٌ يقول ليبيا وآخر يقول اليمن وثالث يقول انها قوة تدخل حيث تستجدّ بؤر للتطرف والارهاب. اي أنها ستتخصص في الحروب الفرعية التي تهدد «الأمن القومي» وكأن تلك التي يخوضها «التحالف الدولي» - وايران - لم تعد تعني الأمن القومي العربي، بل كأنه جرى التسليم بأن سورية والعراق أُخرجا من الكنف العربي.
&
وإذا سألتَ عن مدى اهتمام القمة العربية بالأزمات الأساسية - الداخلية - التي جاءت بالارهاب الى هذه البلدان، ستجد أن هناك اعترافاً مكبوتاً بعجزٍ يلامس اليأس، واليأس يغري بما يشبه الاعتياد والنسيان. يُشار خصوصاً الى اليمن باعتباره الأخطر لأنه خط تماس خليجي - ايراني مباشر، ولأن اليمن كان في سياق عملية سياسية فقد دفعت طهران ببيادقها الحوثية لإجهاضها. لكن ماذا عن البلدان الاخرى؟ حيث يوجد دور عربي يكون جزءاً من المشكلة لا من الحل (ليبيا كمثال) وحيث يوجد دور عربي يريد المساعدة في الحل فإنه لا يزال متردداً ولم يختبر نفسه عملياً (مصر بالنسبة الى سورية كمثال). لذا تبدو هذه الأزمات متروكة للأمم المتحدة ومبعوثيها، من ذلك البائس ستيفان دي ميستورا الذي يتلاعب به نظام دمشق والايرانيون والروس، الى برناردينو ليون المتحايل على شرعية انتخابية لبرلمان ليبيا لاجتراح «شرعية» للميليشيات وسلاحها، الى جمال بن عمر الذي ارتكب أبشع الأخطاء حين وقع في شباك الترهيب الحوثي - الايراني. أما الأزمة السياسية في العراق فهي متروكة منذ زمن لـ «حكمة» الايرانيين في ادارة حكومة بغداد.
&
ما يُفترض أن تتوصل اليه قمة شرم الشيخ هو الرؤية المتكاملة التي تُشعر العرب قبل سواهم بأن الكارثة التي حلّت بالعالم العربي ستغادر القطار الأهوج الهائم على وجهه، بل إنها ستتفرمل أخيراً ليبدأ التعامل الجدّي مع الأضرار والخسائر. ولا يمكن ذلك من دون تشخيص دقيق موحّد لما حدث ويحدث، لكن هذا طموحٌ دونه الكثير من الصعوبات و... الخلافات، لأن كل التدخلات المشار اليها، خصوصاً الاميركية، فعلت فعلها على مرّ السنين في تهتيك الروابط وإيهان الروابط المشتركة من المحيط الى الخليج، سواء كانت عروبية أو اسلامية أو حتى «حقوق انسانية» في دفع الظلم الذي يتعرض الشعب الفلسطيني - وباتت تشاركه فيه الآن شعوب سورية والعراق واليمن ولبنان، وإنْ تعدّد المستبدّون، دخلاء وداخليين.
&
وهكذا، فقد رُفضت العصبية القومية العروبية القومية وحوربت وشتّتت منعاً لفاعليتها (المفترضة) ضد إسرائيل وعصبيتها اليهودية الصهيونية، ويُراد اليوم تصوير الارهاب «القاعدي» - «الداعشي» باعتباره العصبية الاسلاموية (السنّية) البديلة/ الوريثة والخطر المحدق بإيران وعصبيتها الفارسية الصفوية (الشيعية). أكثر من ذلك حوصر «النظام العربي الرسمي»، بعد هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001 الارهابية واعتباره مسؤولاً عن الإرهاب سواء لـ «اسلامية» بعض الأنظمة أو لـ «قومية» بعض آخر. ولا شك في أن هناك مسؤولية عربية - اسلامية لا مجال لإنكارها، لكن هناك شركاء مباشرين في المسؤولية عن ظهور الإرهاب كالولايات المتحدة واسرائيل وايران. كانت الولايات المتحدة وسياساتها دافعاً رئيسياً الى التطرف الاسلامي الذي استدعته الى افغانستان وأشرفت على نمو جذوره فيها ثم تخلّت عنه فصار «القاعدة» وانقلب عليها، وبعدما ضربته في 2001 ورثته ايران وصدّرته الى العراق وتولّى النظام السوري تغذيته فصار تنظيماً مناوئاً للاميركيين أولاً باسم «الدولة الاسلامية في العراق»، ثم في العراق والشام فصار «داعش». وباستثناء نظامَي بشار الاسد ومعمر القذافي لم يُثبت أن أي بلد عربي صنّع الارهاب وصدّره واستفاد منه لتحقيق مصالح معينة. وعشية العام 2011 كان هذان النظامان موضع مغازلة اميركية، السوري لإبعاده عن ايران وترغيبه بـ «التعاون ضد الارهاب» (!)، والليبي لمكاسب نفطية واستثمارية.
&
لعل النقطة الأهم التي ترجّح فكرة انشاء «قوة عربية مشتركة» هي أن العرب لا يثقون بأن لاميركا، أو لإيران واسرائيل، مصلحة حقيقية في محاربة الارهاب للقضاء عليه أو حتى إضعافه الى الحدّ الذي يقطع شروره وجرائمه. فهذه الدول بلغت في المزايدة حدّاً غير معقول، ورغم وضوح العلاقة بين ظهور «داعش» وإدارة ايران للشأن العراقي فإن الاميركيين يتعايشون مع القيادة الايرانية للحرب الراهنة في العراق رغم ادراكهم مخاطرها الآنية والمستقبلية، فحتى الجنرال ديفيد بترايوس لم يتردد أخيراً في القول إن المشكلة الأكبر في العراق هي الميليشيات التابعة لإيران. لكن الإدارة الأميركية لا ترى رأي الجنرال الذي يعرف العراق أكثر من جميع مستشاري باراك اوباما.