عثمان ميرغني
&
ظلت منتديات السودانيين مشغولة طوال الأيام الماضية، بخبر سفر 11 طالبا جامعيا إلى تركيا ومنها إلى سوريا للالتحاق بتنظيم داعش. فالسودانيون الذين عرفوا بالتسامح والاعتدال، ينفرون بطبعهم من الغلو والتطرف، ويعتبرون التيارات المرتبطة بهذه النزعات غريبة عنهم، ودخيلة عليهم. من هنا جاء خبر التحاق الطلاب الذين وصفوا بأنهم متميزون في دراساتهم، ومن أبناء أساتذة وأطباء يقيمون إما في بريطانيا أو السودان، صادما للناس، ومقلقا للكثير من الأسر التي باتت تخاف من انتشار العدوى، ومن تغلغل تنظيمات الإرهاب والتطرف إلى الجامعات.
&
قبل أكثر من عامين، وتحديدا في 16 يناير (كانون الثاني) 2013. نشرت مقالا في «الشرق الأوسط» تحت عنوان «(القاعدة) تطل مجددا في السودان»، وذلك بعدما أعلن عن تشكيل جناح طلابي للتنظيم بجامعة الخرطوم. وقتها حاولت السلطات السودانية التهوين من الأمر، وما تزال حتى اللحظة تصر على نفي وجود أي مظاهر للتطرف أو الإرهاب في البلاد. حتى في تعاملها مع مسألة الطلاب الذين تسربت إليهم أفكار «داعش» ودعاياتها في «حصن» أكاديمي، لم تبد السلطات روح الاستنفار والقلق المطلوبة، بل تعاملت مع القضية بالتخبط ومحاولة النفي أولا، ثم التقليل من شأنها لاحقا.
&
حسبو محمد عبد الرحمن، نائب الرئيس السوداني، قال إنه لا توجد مظاهر تطرف أو إرهاب بالبلاد، ثم ألحق ذلك بقوله إن الظواهر التي بدت قليلة كان علاجها في مهدها عبر أسلوب الحوار المباشر. كلام غريب ومتناقض، والأغرب منه كلامه «عن ضرورة ترسيخ مبادئ الحوار والتراضي وقبول الآخر، وتعزيز قيم السلام ونبذ الكراهية والنزاعات»، فأي من هذه الأشياء لم يعد موجودا في السودان منذ مجيء «نظام الإنقاذ».
&
الرئيس عمر البشير خرج بتصريحات انتقد فيها وجود أميركا ضمن قوات التحالف التي تقاتل «داعش»، قائلا إن ذلك يثير غضب الشباب المسلم الذي يعتبر أميركا عدوا للإسلام. الرئيس نسي أو تناسى أن نظامه تعاون استخباراتيا مع الولايات المتحدة وسلمها، بغية الحصول على رضاها، ملفات أمنية ومعلومات استخباراتية جمعها عملاؤه في دول لا تستطيع الاستخبارات الأميركية العمل فيها بسهولة.
&
النظام لا يريد تحمل المسؤولية والإقرار بأن سياساته هي التي أوصلت البلاد إلى هذه الحال، ولولا أن غالبية السودانيين معتدلون وينبذون التطرف والعنف بطبعهم، لأصبح البلد فعلا مرتعا كبيرا للإرهاب والتطرف. فنظام الجبهة الإسلامية دمر النسيج الاجتماعي في السودان، ونشر الحروب والفقر والبطالة والفساد، وفتح الأبواب لمظاهر تطرف غريبة على البلد وأهله الطيبين. فمنذ بداياته رفع رايات «الجهاد» في حربه بالجنوب وروج للاستشهاد عبر برامج تلفزيونية وإعلامية مثل «ساحات الفداء» و«عرس الشهيد»، واعدا من ساقهم للقتال والموت في الجنوب بطريق الجنة. المفارقة أنه بعد كل تلك التعبئة باع النظام ذكرى أولئك الشباب بتوقيعه اتفاقية السلام وقبوله انفصال الجنوب.
&
في فترة الحماس تلك فتح النظام أبواب السودان للمتطرفين من كل حدب وصوب، واستضاف أسامة بن لادن والإرهابي الفنزويلي كارلوس، قبل أن يمتثل للضغوط الدولية فيطلب من الأول المغادرة، ويسلم الثاني لفرنسا في صفقة أمنية. لكنه استمر في إيواء إسلاميين هاربين من بلادهم، كما استقبل عناصر «تنظيم الجهاد» و«الجماعة الإسلامية» المصريين، وتورط في دعم محاولة اغتيال الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك في أديس أبابا عام 1995.
&
لم تكن تلك مجرد صفحات انطوت، ومغامرات انحسرت، لأن سياسات النظام أدت إلى ظهور تيارات متطرفة غريبة على السودان والسودانيين، فوقعت اعتداءات مسلحة على مصلين في مساجد، وعلى صحافيين وفنانين. رأينا بعد ذلك سودانيين في صفوف «القاعدة» بأفغانستان، ثم في العراق، وفي فترة من الفترات كان هناك 12 سودانيا بين المعتقلين في غوانتانامو. في الصومال قاتل سودانيون وقتلوا خلال اشتراكهم في المعارك ضمن صفوف حركة الشباب، وفي مالي قتل في عام 2013 قيادي سوداني من تنظيم ما يسمى بـ«القاعدة في بلاد النيلين» خلال مشاركته في المعارك هناك.
&
بعد كل ذلك يقول مسؤولو النظام إنه لا وجود لأي مظاهر تطرف أو إرهاب في السودان. يصدر هذا الكلام رغم رفع علم «القاعدة» في مظاهرات وندوات وفعاليات علنية نظمتها جماعات متطرفة في الخرطوم ومدن سودانية أخرى. ويصدر في وقت بتنا نسمع فيه عن تنظيمات مثل «السلفية الجهادية» أو «دعاة الشريعة» تروج لأفكار دخيلة وتدعو علنا إلى القتال بزعم تطبيق الشريعة وبهدف إقامة «الدولة الإسلامية» على طريقة «داعش» و«القاعدة».
&
الأجواء والسياسات التي فرضت على السودان، هي التي أوجدت البيئة التي تغذت منها مثل هذه التنظيمات، وهيأت لوقوع بعض الشباب في شباك «داعش» ودعاياته. قصة هروب 11 من طلاب الطب تدق مرة أخرى نواقيس الخطر، وتثير المخاوف مما هو آت، ما دامت الأوضاع استمرت على ما هي عليه.