فهد محمد السلمان
&
لم يستحق نيلسون مانديلا لقب زعيم ثورة لأنه استطاع عبر نضال طويل أن ينتصر على نظام حكم البيض، ليقصيهم من السلطة ويأخذ مكانهم، أبداً لم يكن الأمر كذلك، وإنما لأنه استطاع أن يبني نظاماً جديداً لا يقصي أحداً، وأن يؤسس لثقافة وطنية واجتماعية جديدة، ترفض إعادة إنتاج الأبارتهيد مرة أخرى لمجرد أن يُصبح الطارد بالأمس مُطارَداً في اليوم التالي، لو تم الأمر بهذه الصورة لبقيت جنوب أفريقيا إلى اليوم ترزح تحت وطأة المغالبة على السلطة.
&
لقد ركب الرجل في خلايا دماغه طيلة مكوثه في معتقلات البيض صورة ثقافة جنوب أفريقيا الجديدة، فلم يفكر كثيراً في شكل النظام، بقدر ما فكر في نوع الثقافة التي يجب أن تتوكأ عليها ثورته لتتعافى من مغبة النزاع على السلطة، وهو ما أثار حفيظة حلفائه في انكاثا، وحتى بعض رفاقه من الراديكاليين في حزب المؤتمر الوطني، الذين ما ان لاحت أمامهم بروق الانتصار حتى بدأوا يفكرون في الاقتصاص ممن جرعهم مرارة الذل طيلة عقود لأخذ مواقعهم، والزج بهم في السجون والمعتقلات، تحت عنوان «ليتذوقوا ما ذقناه». لكن (ماديبا) كان أبعد نظراً، وأعمق رؤية، فكان أول ما فعل بعد دخوله قصر الرئاسة في كيب تاون، أن رفض طلب رئيس حرسه الخاص بإبعاد كافة عناصر الحرس الرئاسي السابق من البيض بحجة أن ولاءهم سيبقى لابن جلدتهم دي كليرك، وربما تحولوا بالتالي إلى مصدر خطورة على حياة الزعيم الأسود، لكنه أراد أن يبعث أولى رسائله التصالحية لشعب جنوب أفريقيا من السود والبيض على حد سواء، وهي أن شمس جنوب أفريقيا الجديدة ليست هي ذات الشمس التي جعلت الأبيض في موضع الضوء، وجعلت المواطن الأسود مجرد ظل، وتلاحقت رسائله، من الوقوف خلف فريق الركبي ذي الصبغة الأفريكانية، ورفض تغيير شعارهم العنصري وهم في أوج مواجهة بطولة باسم الوطن، إلى زيارة أرملة سجانه في منزلها، إلى غير ذلك من الرسائل العميقة التي استأصلتْ عقدة الاقتصاص والثأر، وروجت لثقافة الاحتواء، أو ثقافة «أمة قوس قزح» كما وصفها هو، ليأخذ شعبه من السود الذين كانت تستشري الأمية في أوساطهم بشكل يفوق الوصف، نتيجة الفصل العنصري وتوابعه من الحرمان والتهميش والفقر والجهل والتخلف، إلى مناخ ثقافي اكتسح كل فروق العرقيات والألوان ليؤسس لمجتمع جديد لا يشبه سابقه بأي صورة.
&
لقد استوعب الزعيم الأفريقي نظرية أن الثورة لا يمكن أن تقوم على الثأر، وأن الأوطان مختلطة العرقيات أو الطوائف أو المذاهب والأحزاب لن تُحكم باستبدال عرق أو حزب أو طائفة أو أي اثنية مكان أخرى. والنتيجة لا تحتاج إلى تعليق، هاهي جنوب أفريقيا، وهاهو مانديلا الزعيم الرمز في حياته وبعد مماته.
&
أستعيد ملامح هذه التجربة وأنا أتأمل ما يحدث في ليبيا وفي اليمن وفي سورية، وفي حكومة العراق السابقة على وجه التحديد، نظام يريد أن يركب مكان نظام، يريد أن يأخذ الممحاة ويشطب باسم البارانويا كل وجوه النظام السابق، حتى من كان يعمل لخدمة بلاده، وإلا من يصدق أن يتم إقصاء شخصية وطنية بحجم محمد المقريف في ليبيا لمجرد أنه حصل على وظيفة ليعيش منها في ظل الحكم السابق؟، أي جريرة هذه؟، أحياناً يبدو لي أن هذه الثورات، كانت تفترض أن يتم استبدال الشعوب لأنها هي الأخرى عاشت في زمن النظام السابق، وأكلت من رغيفه، وهاهي تتداعى وتتآكل من داخلها لأنها فقدت أهم أسباب بقائها، وهو إحداث الثورة الثقافية اللازمة لتأسيس نظم غير مستبدة، تنبني على إقامة موازين العدالة، وإحياء ثقافة التسامح مع من لم يثبت له جرم، وفتح الأبواب لاستثمار كافة مقومات الوطن إنساناً وثروات.
&
هاهم الحوثيون الذين شاركوا في الثورة ضد نظام صالح، وبمجرد أن استولوا على السلطة، وطفحت بهم مراكبها لخفة وزنهم السياسي، وإن تثاقلوا بأسلحة طهران، عادوا سريعاً ليس لإعادة إنتاج نظام صالح، وإنما لإعادة إنتاج صالح بشحمه ولحمه، ولكن هذه المرة برأس ٍ حوثي.
&
هذا غيض من فيض مهازل بعض هذه الثورات التي فشلتْ في إحداث ثورة ثقافية شاملة وناجزة، جديرة بأن تنقي دم شرايينها من فيروسات وميكروبات الاستبداد التي خالطتْ حليب رضاعها، فصار أقصى غاياتها كما يبدو، إزاحة صنم لإقامة صنم آخر مكانه.