حازم صاغية

حتّى الأمس القريب، كانت الحرب العالميّة الأولى تعني للأتراك أمرين، الأول سلبيّ، والآخر إيجابي: هزيمة العثمانيّين وتفكّك سلطنتهم من جهة، ومن الجهة الأخرى، صعود مصطفى كمال أتاتورك بوصفه المنقذ الذي منع الأسطولين البريطاني والفرنسي من التقدم واحتلال مضائق البوسفور، تمهيداً لإعادة ترميم الدولة التركيّة، وقد تخلصت من إمبراطوريتها.

&


ولكن هذه الرواية انتهت، أو هي في طريقها إلى الانتهاء، على يد حكّام تركيّا الحاليّين، فمؤخّراً، وفي الاحتفال بالذكرى المئوية لانتهاء تلك الحرب، لم يُشر رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو، في الكلمة التي ألقاها، إلى أتاتورك، ولا إلى معركته الفاصلة المعروفة بمعركة «غاليبولي»، حيث تكبّدت قوّاته 70 ألف قتيل في سبيل تحقيق النصر. لقد ركّز أوغلو، في المقابل، على «وحدة المصير بين شعوب المنطقة تحت الحكم العثماني، والنصر الإلهي للجنود المؤمنين»، واستشهد بأن القتلى الذين سقطوا خلال خوضهم المعركة في صفوف الجيش العثماني، أتوا من بغداد وحلب وبيروت وأصقاع العالم الإسلامي «دفاعاً عن عاصمة الخلافة العثمانية»، وبالطبع، لم يشر المسؤولون الأتراك في هذه المعمعة إلى أنّ أولئك الجنود لم يأتوا إلى الحرب بمحض إرادتهم من أصقاع العالم الإسلامي، بل سيقوا سوقاً إليها.

وعلى العموم، فهذا ليس بالتغير الطفيف ولا السطحي في الرواية التركية، فإذا كان أتاتورك هو الذي فكّك السلطنة، ثم ألغى الخلافة في 1924، آملاً بتحويل بلاده إلى دولة- أمة حديثة تتجه بطموحها باتجاه تقليد أوروبا، وغني عن القول إن «حزب العدالة والتنمية» الحاكم حالياً في أنقرة، والمتفرع عن جماعة «الإخوان المسلمين»، إنما تقوم علة وجوده في تركيا على رفض الانعطافة الأتاتوركية الموصوفة بالتغريب، ومحاولة إعادة الوصل مع «الأجداد» من بني عثمان. وقد سبق لرئيس الجمهورية أردوغان أن عبّر مراراً، خطابياً كما رمزياً، عن هذا الميل العميق، ولاسيما حينما استعرض ثلّة من الجنود يلبسون جميع الأزياء التي سبق للجيش العثماني أن تزيّا بها على مدى تاريخ السلطنة الطويل.

وقد بات معروفاً أن ضغط المؤسسة العسكرية التركية، مدعومة في هذا من بعض القطاعات الحديثة في الطبقة الوسطى المدينية، هو وحده ما يجبر أردوغان وحزبه وحكومته على إبداء الاحترام الشكلي لأتاتورك، وعلى الاقتصاد في التعبير عن الهوى الإمبراطوري- العثماني.

وفي الوقت نفسه، كان الإيرانيون، وعلى ألسنة عدد من رسمييهم السياسيين والإعلاميين، يعلنون عن رغبتهم في استعادة الإمبراطورية الفارسية، وعن عودة مدينة بغداد عاصمة لتلك الإمبراطورية، على ما كانت المدائن الواقعة في نطاق بغداد الحالية. والحال أن أولئك الرسميين الإيرانيين فيما يرددون أقوالهم ورغباتهم هذه (ثم يستدركونها بتصحيحات غير مقنعة)، يواكبون عملية تقدم ميداني يحققونها، إما مباشرة أو بالواسطة، في كل من العراق وسوريا واليمن ولبنان.

والقاسم المشترك هنا بين إيران وتركيا، اللتين قد تتنازعان على أمور عدة، أن الحكم فيهما إسلامي وإيديولوجي، بمعنى أن الأولوية لديه لا تعود إلى الدولتين وشعبيهما من ضمن حدودهما الوطنية، بل إلى نطاق جغرافي أعرض بكثير تتم فيه تلبية مصالح هذين الشعبين والدولتين. ولئن كانت إيران واضحة وصريحة في نزعتها التوسعية هذه، على ما يدل، مثلاً لا حصراً، استمرارها في احتلال الجزر الإماراتية الثلاث (طنب الكبرى، وطنب الصغرى، وأبو موسى)، فإن تركيا المقيدة بنظام برلماني، فضلاً عما تبقى من ثقل للجيش الكمالي، لا تكفّ عن محاولة تطويع هذا الواقع لغرض الطموح الإمبراطوري. ولكن القاسم المشترك الآخر بين إسلاميي تركيا وإيران، على رغم سنيّة الأولين وشيعية الأخيرين، إنما يتمثل في ضعف جيرانهم العرب وافتقارهم إلى استراتيجية متجانسة تجتمع فيها قواهم وقدراتهم.
&