&جاسم بودي

غطت عاصفة الحزم على عاصفة الكذب التي عصفت ببلدنا الكويت لأشهر، وارتأت القيادة السياسية أن تعتمد خيار النفس الطويل، ما أجبر الطرف المفتري في النهاية على الاعتراف والاعتذار... فطلب الصفح.

وإذا كانت قضية شريط الفتنة من أساسها سخيفة وتبعث على السخرية رغم الأذى الذي حققته على المستوى السياسي والوطني العام، فإن من السخافة والسخرية أيضا أن نتعامل مع الاعتذار على قاعدة عفا الله عما مضى دون توضيح عدد من النقاط كي لا تكون هذه السابقة مدخلاً لتفريخ قضايا تهريج جديدة تشغلنا أو تشغل بعضاً منا.

على المستوى الشخصي لا يعنيني موضوع الاعتراف ولا الاعتذار ولا الصفح، كون النتائج تؤكد ما لم يكن بحاجة إلى تأكيد، وأعتقد أن الكويتيين من اليوم الأول باستثناء قلة منهم كانوا يتعاملون مع قضية التجسس المصور وتركيب الأصوات وتزوير الشخصيات من باب التندر إلا أنهم في الوقت نفسه كانوا يستغربون من المستوى المنحط لقضية مفبركة ويشفقون على سياسيين اعتمدوها وسيلة لتصعيد مطالبهم... وإن كان هؤلاء اليوم بعد بيان الاعتذار الذي تلا بلاغ الإفك يحاولون القفز من السفينة والادعاء أنهم لم يكونوا في مركب الشريط نفسه.

لا يعنيني الموضوع وإن كنت منذ البداية أعلم أن حلفاً سيتركب بين مجموعة التقت مصالحها إثر الانتخابات الأخيرة وما أفرزته من واقع سياسي جديد على ضرب هذا الواقع بشتى الطرق، فكان الحقد الأعمى ونقص النضوج والخبرة والتسرع... الوسائل التي جمعت بين مستعجل للسلطة ومستعجل لضرب السلطة.

اليوم هناك اعتراف من أحمد الفهد بأنه كان على خطأ، لكن الاعتراف كاذب أيضاً، وهذه النقطة مهمة جداً إذ إنه قال إن كل القضية التي هدد من خلالها بتدمير أركان الدولة والمؤسسات بنيت على معلومات ومستندات «وصلتني تتعلق بمصالح الوطن، ظننت أنها صحيحة وذات مصداقية». ولا ينطلي على عاقل ما زعمه الفهد من أن المعلومات «وصلت» إليه وهو كان فقط جسراً عبرت عليه أو أنبوباً مرت من خلاله، فمن يستمع إلى بياناته ولقاءاته التلفزيونية، ومن اطلع على لقاءاته الأولى مع بعض أقطاب المعارضة للحشد والتصعيد، ومن يتابع أسلوب فبركاته الأخرى مع مؤسسات هامشية إعلامية وغير إعلامية داخل الكويت وخارجها لتثبيت أي حيثية أو مصداقية لما قام به... يدرك أن المعلومات إنما من بنات أفكاره وأفكار المجموعة «الذكية» التي أحاط نفسه بها وأوصلته إلى ما أوصلته إليه.

وهناك موضوع مهم في هذه النقطة يعري تماماً اعترافه المنقوص، فالفهد لم يكتف بالمعلومات التي «وصلته» عن مخطط بين شخصين لقلب نظام الحكم بل أدلى أمام النيابة بإفادات مست عدداً كبيراً من أهل الكويت وأساءت إليهم وأوحت بأنهم مشاركون في المخطط، بينهم كاتب هذه السطور وشخصيات أخرى مثل الوزير السابق مشاري العنجري وخالد هلال المطيري ونشطاء سياسيين ومغردين، وكان يتحدث عنهم في النيابة من موقع صاحب المعلومة بكل ثقة وليس من موقع وصول المعلومة إليه، فهل هؤلاء كانوا أيضا في الشريط المفبرك؟ عموما فإن حق التقاضي مكفول لكل من ورد اسمه في النيابة وأساء إليه الفهد.

الرجل الذي يملك شجاعة الاعتراف عليه أن يسمي الأمور بأسمائها ويقول إنه هو من اخترع وفبرك كل هذه القصة ولا يترك الباب موارباً لمخرج لاحق يعتقد أنه يسمح له بالتحلل من المسؤولية.

ومن النقطة الأولى إلى الثانية، يقول الفهد «أما وقد تأكد لدى الجهات القضائية المختصة عدم صحتها وسلامتها، فإن الرجوع إلى الحق فضيلة»... والله إن هذه أيضاً «قوووووية»، فجميع الكويتيين بلا استثناء يعلمون أنه عندما قال القضاء كلمته في عدم صحة الأشرطة، خرج الفهد ببيانين فيهما اتهامات غير مسبوقة ضد رجال القضاء الذين ما أساء إلى صرحهم تاريخياً أحد مثلما أساء الفهد. بيانان كانا أشبه بمعولي هدم لسور الدولة وحصنها وملاذها الأخير.

أما النقطة الثالثة، فمنذ اليوم الأول للقضية ونحن أمام طرفين، واحد يتهم أشخاصاً اعتباريين في الدولة بجملة اتهامات كل واحد منها كفيل في حال ثبوته إما بإيصالهما إلى عقوبة الإعدام أو المؤبد، فأنت هنا تتحدث عن قلب نظام الحكم والتخابر مع جهة خارجية وغسل أموال وتعامل مالي مع العدو الإسرائيلي، وكذلك الأمر بالنسبة إلى القضاة الأفاضل الذين اتهمهم بذممهم وشرفهم وخرقهم لقدسية واجبهم. وكنت دائما أقول للمعنيين إن هناك طرفاً يجب ألا يبقى طليقاً إذا كنا فعلاً دولة قانون ومؤسسات، فإما أن يعاقب من تثبت بحقهم الاتهامات وإما أن يعاقب من فبركها بموجب الحق العام حتى لو تنازل من تنازل.

النقطة الرابعة التي أتشارك فيها مع كثيرين يلخصها السؤال التالي: ماذا لو كان مفبرك بلاغ الإفك والفتنة من خارج أسرة الحكم؟ ماذا لو كان مواطناً عادياً؟ هل كان سيكتفى بإعلانه الاعتذار؟ أجزم بأن الأمر سيكون غير ذلك وسيستحق ما يستحق بموجب القوانين. أقول هذا الكلام من باب الحرص على مبدأ العدالة والمساواة وكي لا تسمح هذه السابقة لمهرجين أشقياء آخرين بحذو حذو من سبقهم، بل أكثر من ذلك أقول إن تطبيق العدالة يحول دون خروج الفهد نفسه بعد فترة من الزمن وعند تغير الظروف السياسية ويقول إن كل ما جاء به كان صحيحاً وإنه كان مجبراً على بيان الاعتراف والاعتذار... تعودنا على كل أشكال الغرابة في الكويت.

النقطة الخامسة، هي أن الفهد أساء باعتذاره إلى الشعب الكويتي عندما استثناه منه، طبعا لا أحد من الكويتيين يريد أن يكون جزءاً من هذه القضية لكن الفهد عندما أصدر بيانه الشهير المسيء إلى القضاء ورجاله خاطب الشعب الكويتي و«انتخاه» بعبارة «إخواني وأبناء وطني» طالباً منهم النصرة لإعادة ما أسماه الحق إلى نصابه. فعندما يريد التصعيد ويبحث عن أدوات له في مخططاته يلجأ إلى «إخوانه وأبناء وطنه» ويغرر بقلة منهم مع الأسف الشديد، وعندما تنكشف مخططاته يعتذر فقط من القضاة والشخصيات الاعتبارية التي اتهمها وينسى... إخوانه وأبناء وطنه.

النقطة السادسة أن الفهد يأمل باعتذاره أن تطوى الصفحة، لكن العدل يقتضي أن تتكشف كل خيوط المؤامرة كي تطوى الصفحة، فالرجل لم يكن يعمل منفرداً وليس سراً أن هناك مجموعة كانت تعمل معه والشعب الكويتي يطالب فعلاً بمعرفة هؤلاء كي لا يلتفوا مستقبلاً حول مفبرك آخر ويشغلوا البلاد والعباد في ما لا طاقة لنا به... وهذه أيضاً مسؤولية الدولة وأجهزتها القضائية والأمنية.

النقطة الأخيرة إلى الإخوة في المعارضة، أتوجه إليهم بالقول إنكم ما كنتم تحتاجون لا إلى مهرج ولا قضية سخيفة ومفبركة لتفعيل الحراك، فالقضايا في الكويت كثيرة وموجودة وأهم من التهريج ومن المهرج، وهي تحتاج إلى تكاتفكم وتكاتف الجميع لحلها. إن التحالف الهش الذي تم بين مستعجل إلى السلطة ومستعجل لضرب السلطة أفقدكم جزءاً من مصداقيتكم وأدى – للأسف الشديد - إلى توريط شباب متحمس بالتصعيد وسقوط عقلاء في فخ التسرع والحسابات الضيقة. إن ضحايا أحمد الفهد في صفوف المعارضة من جرحى سياسيين وموقوفين سيقفون على أقدامهم مرة أخرى وسينتزعون الحق ممن خدعهم، أما عقلاء المعارضة فخير ما يعوضون به على هؤلاء هو الاتفاق على مشروع سياسي موحد يعيد للحياة السياسية رقيها بعيداً عن سيطرة... السفهاء.

وأخيراً أختم بالآية الكريمة نفسها التي اختتم بها الفهد بيانه غير المسبوق ضد القضاة، فربما اعتبر من اعتبر وربما استوعب من استوعب وربما أدرك من أدرك كيف تصل الجرأة بالبعض إلى استخدام الدين في ليّ عنق الحقيقة.

بسم الله الرحمن الرحيم

«وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر»...


&