&أمينة خيري

&

&

&

&

&


&

&

التصق الجميع بالشاشات، وتوقفت كل الأعمال، وتحوّلت الأنظار كافة صوب شرم الشيخ حيث الشواطئ والبحر والهواء العليل. ولكن، على رغم جمال المنظر وحلاوة المشهد وطراوة الأجواء، لم تكن أنظار كذا مليون مشاهد ومشاهدة مصوَّبة تجاه الشاشة لهذا الغرض. فالقمة العربية التي دارت رحاها في المدينة الساحلية، كانت محطّ أنظار الجميع قبل وأثناء الانعقاد وبعده.

ويمكن القول إن الشاشات أنعشت الأذهان، وأيقظت العقول، وأدت إلى زيادة دقات القلوب دقة أو دقتين، حيث طغت المراقبة على المشاهدة، والملاحظة على المتابعة، وكاد الجميع يتحول إلى «كولومبو» باحثاً في دليل إدانة غير مرئي، أو جسم جريمة لم يلحظه أحد، أو ابتسامة بروتوكولية تخبئ مشاعر عدائية، أو استهانة سياسية تعكس بوادر انشقاقية.

الانشقاقات العربية ومعها الخلافات في التوجهات والفروق في الإيديولوجيات، إضافة إلى التوجهات الدينية والنعرات الطائفية والصراعات المذهبية، انصهرت كلّها خلف الشاشة الفضية، حيث تجمهر المصوّرون وتواتر المذيعون واصطفّ الإعلاميون من كل حدب وصوب عربي لتصوير وقائع الجلسات، ونقل كلمات الزعماء، ثم انطلق كلّ في طريق بحثاً في انفراد هنا أو معلومة هناك أو استباق توصية أو توقع نتيجة أو لقاء وزير أو استضافة صحافي زميل لتحليل ما لا يمكن تحليله أو توقع ما لا يحتمل التوقع. إلى هنا، يبدو الأمر عادياً من وجهة نظر تلفزيونية، حيث البحث عن المعلومة وبثّ الخبر وإعلام المشاهد بما يجري على أرض القمة، وهو ما يعني أن المشاهد العربي بمختلف انتماءاته وطبقاته وتوجهاته، يحصل على وجبة إخبارية يفترض أن تكون موحّدة، وهذا ما لم يحدث.

ما حدث على الشاشات الحكومية – أو المحسوبة على الدول - كان تسييساً للأخبار، وتلميحاً إلى أدوار، وتنبيطاً علـــى رؤساء وتعميقاً لتوجّهات. فعلى هـــذه الشاشة، سيطر رئيس هذه الدولة باعتباره البطل الرئيسي والعامل المــركزي والعنصر الفاعل، وعلى تلك تعمــّد قارئ النشرة ومعدّ التقرير الإعادة والاستفاضة في الإشارة إلى كلمة أمير بلاده وكأنها كانت محور المناسبة والأبرز بين قريناتها. ولأن التوجهات السائــدة في دولة ثالثة تميل إلى التقليل من حجم القمة والحيلولة دون انصياع شعبها لما دار في أرجائها، فقد كانت أخبارها تأتي في ذيل النشرة ولا مجال لتقارير إضافية فيها، باستتثناء الجلسة التي ألقى فيها الزعيم كلمته.

&

تلاعب

الكلمات التي لا يمكن تأويلها أو التلاعب في مكنونها، لم يكن هناك محيص من نقلها، وإن بقيت القدرة على التلاعب أو التعاظم في عدد مرات التكرار، والقدرة على الاجتثاث، والميل إلى إضافة هالة من الأهمية أو الانتقاص عبر تزويدها بمداخلة هاتفية مع المحلل السياسي المهلل لها، أو استضافة عبر الأقمار الاصطناعية للخبير المندد بها. وتبقى الرسالة الإعلامية السياسية واضحة، حيث الأخبار وقد أضيفت إليها توابل التسييس، والمواقف وقد سُلِبت منها نكهات التحسين، والتوجهات وقد وُضعت إما تحت المجهر بغرض التضخيم أو تعرّضت للتخفيف بهدف التقليل.

لكن المشاهد العربي، سواء كان جالساً في غرفته في مراكش أو مطعمه في صفاقس أو عمله في طنطا أو دكانه في صعدة أو مقهاه في الرياض أو مخبأه في إدلب أو مصنعه في الأحمدي أو شرفته في صور، قادر على الجمع بين هذه الشاشات المسيّسة ونشرات الأخبار الموجهة والتقارير المؤدلجة، عبر الاختراع العبقري المسمى «ريموت كونترول». فهو الذي يتيح للمشاهد التنقل كالفراشة بين هذه القنوات وتلك بخفة ورشاقة، والخروج بنتائج مبسّطة من كل منها ليدخلها بطريقته الخاصة مصنع صناعة أفكاره وتوجهاته الكامن في جمجمته، ومن ثم الخروج بوجهة نظر شخصية في ما يختصّ بالقمة العربية.

في الوقت ذاته، فإن شاشات عربية أخرى ملأت الفراغ الطائفي الذي قد تترفع القنوات الحكومية عن الغوص فيه، تاركة المهمة لغيرها من القنوات الخاصة أو شبه الخاصة التي لا تجد نفسها مضطرة الى رفع راية «كلنا أبناء هذا الوطن»، وما أكثرها.

فالقنوات المنتمية للطائفة «أ»، دقت دقاً شديداً وطرقت أبواب النعرات من دون هوادة، عبر تحليلات في الاستوديو ومداخلات عبر الهاتف ممن يؤكد أن الطائفة «أ» كانت محقة على طول الخط في مواقفها من الطائفة «ب». وبالطبع فإن قنوات الطائفة «ب»، كانت أسرع في الدق على الحديد وهو ساخن، مؤكدة عبر مرجعياتها الطائفية ورموزها المذهبية، أن الطائفة «أ» فضحت نواياها المذهبية وحشدت لرغباتها الداخلية عبر انتقائها كلمات دون غيرها، وضيوفاً أكثر من سواهم، على رغم أن القمة واحدة.

القمة الواحدة التي تسمّر أمامها ملايين العرب لأسباب مختلفة، تبقى واحدة وإن اختلفت الشاشات وتراوحت المشاهدات. وبينما يقف مذيعان في بهو الفندق يبثان لشاشة كلّ منهما تقريراً يومياً ملخصاً محصلات اليوم، خرج التقرير الأول غارقاً في الإيجابية مفرطاً في التفاؤل مبشراً بمستقبل عربي باهر وغد وطني واعد، وجاء التقرير الثاني غارقاً في السلبية مفرطاً في التشاؤم منوحاً بمستقبل عربي قاتم وغد وطني غائم، وإن ذيل كلّ منهما تقريره بـ «فلان الفلاني من مدينة شرم الشيخ مصر».

&

حبيس قواعد البروتوكول

وفي مدينة شرم الشيخ، جال الملايين من المشاهدين في أروقة القمة عبر شاشاتهم المفضّلة. لكن الغالبية لم تكن تبحث في كلمة زعيم أو تصريح رئيس أو كلمة ترحيب أو بيان ختام بمقدار ما كانت تبحث في مكنون قلب لعله يُترجم عبر نظرة عين، أو تقطيبة جبين أو رعشة فم. ولم يبق سوى أن يصطحب المشاهد معه عدسة مكبرة ينقب بها عن مخبوء النفوس والصدور ومكتوم القلوب ودفين العقول المعروف لدى الجميع، لكنه يظل حبيس قواعد البروتوكول ودفين قيود الديبلوماسية.

لكن الديبلوماسية لم تقف يوماً حائلاً دون قدرة الشعوب على التحليل، وإقبال المشاهدين على قراءة ما بين السطور. صحيح أن التحليلات الشعبية والقراءات الشخصية تبقى قيد الأهواء الإيديولوجية والقناعات السياسية، لكنها في حد ذاتها تحولت إلى مادة ثرية في التغطيات التلفزيونية لوقائع القمة العربية.

القمة العربية في عيون المغرّدين والمدوّنين والمعلّقين، تحولت إلى فقرات ثابتة على مدار التغطية التلفزيونية للقمة. وحتى مثل تلك الفقرات، عكس مقداراً هائلاً من التوجهات السياسية والأهواء الإيديولوجية والمشاعر المذهبية، منها ما حافظ على رصانته بكلمات فيها الكثير من المواربة، ومنها ما نضح بصراحة مقيتة أو انتقادات شديدة ترمز بشكل عبقري الى ما آلت إليه المنطقة العربية من تحزبات وانقسامات وهرطقات، لم تظهر للمشاهد المكتفي بمشاهدة فاعليات القمة العربية، لكنها كانت جلية واضحة للمشاهد الإيجابي حيث البحث والتقصي والتحليل والتفنيد بناء على نظرة عين، أو همسة جانبية، أو لمزة داخلية.
&