محمد الرميحي

كنت أعرف من خبرة وقراءات سابقة أن أولى الضحايا في الحروب هي الحقيقة، ولكني أستأذن القارئ في أن أضيف إليها ضحية كبرى ثانية هي «الأخلاق»! ويبدو أن الثانية هي صفة للحروب التي تنشأ في الشرق الأوسط حولنا، فبعض أطرافها تنتهك الأخلاق وتضحي بأهم ما وهبه الله للإنسان وهو العقل، أي أنها تستخدم وسائل وادعاءات تحتقر فيها عقول أهل العقل.


ولو لم تتناول وسائل الإعلام على نطاق واسع هذا الأمر لنأيت بنفسي عن الخوض فيه، ولكن أن يترك للأقاويل دون تحليل عقلي فذلك تراجع في نظري عن الدفاع عن الحق. الأمر الذي ربما أطلت تقديمه هو إعلان دولة إيران وقف إرسال المعتمرين والحجاج لإقامة شعائرهم في المدن المقدسة في المملكة العربية السعودية، بحجة أن شرطيين في مطار جدة «تحرشا» بصبيين إيرانيين عائدين من العمرة! ويضيف الخبر الذي نقل في محطة الإذاعة البريطانية الناطقة بالعربية، أن السيد وزير الثقافة الإيراني علي جنتي صرح بأن السلطات السعودية وعدت «بإعدام الشرطيين» ولم تفعل! طبعا من الطبيعي أن يحدث بين قوى الصراع الكثير من الكر والفر الإعلامي والدعائي، أما أن يصل إلى هذا الدرك فإنه يحتاج إلى وقفة لمعرفة تلك «العقلية» التي تقف وراء هكذا أقوال.


في البداية دعونا نتذكر أن الإخوة في إيران كمسلمين يحجون ويعتمرون بعد قيام دولتهم الإسلامية كل عام، أي منذ عام 1980 حتى اليوم 2015، أي منذ خمسة وثلاثين عاما، في أثنائها شهدت العلاقات السعودية الإيرانية شدًا وجذبًا، سلبًا وإيجابًا على النطاق السياسي والآيديولوجي، ولم يحدث خلال كل تلك المدة الطويلة، والتي تقول لنا بعض المصادر، إنها في العام الواحد تصل إلى نصف مليون حاج ومعتمر إيراني، لم يسمع أن هناك تحرشًا حدث لا بنساء ولا بصبيان، لماذا إذن هذا الأمر ظهر الآن في مرحلة «عاصفة الحزم»؟ إن أحسنا النية فإنه جزء من البروباغندا الإيرانية التي تريد أن تصعد، وتبحث عن حجج، فلم تجد حجة لوقف الرحلات إلا في اختلاق حادث أخلاقي، أما إذا فكرنا بطريقة مريبة، فإنها تعني إشاعة سوداوية على شعب كامل واتهامه في ثقافته الإسلامية. الفكرة العامة بجانب التشويه الذي تبتغيه، تدعي الجهة الإيرانية أن السلطات السعودية قد وعدتها بإعدام الشرطيين، وذلك تشويه آخر، والعاقل يقف أمام هذا الأمر ويسأل، كيف يمكن الوعد بإنزال ذلك العقاب القاسي، دون تحقيق، والتحقيق هنا كما هو في المجتمعات التي تحترم نفسها، يجري ليس على المتهمين (بفتح الهاء) ولكن أيضا مع المتهمين (بكسر الهاء)، فكيف يتم ذلك؟ والأخيران الآن في طهران! واضح أن الأمر هو من جملة تصعيد، ليس بسبب عزيز (بفتح العين) ولكن بسب عزيز (برفع العين) وهو مثل شعبي خليجي يطلق على الاستفادة من وفاة الأول للبكاء على الثاني، أي البحث عن ذرائع، للغمز من سلوك مسؤولين في خدمة عامة، ومحاولة تسييسها، على أنها من طبائع ذلك المجتمع، ولهذا الادعاء، طبعا لمن يصدقه، صدى أخلاقي سلبي، يتجاوز الفاعلين المباشرين.
الأكثر استغرابًا في الأمر من وجهة نظري أن الاتهام صادر من رجل مثقف هو الدكتور جنتي، وهو رجل عرفناه شخصًا متوازنًا، لما كان سفيرا للجمهورية الإيرانية لدى الكويت لدورتين، وهو بالتأكيد أول من يعرف أن أكبر المتهتكين في هذا الأمر في التاريخ هو أبو نواس، وهو من مواليد غرب إيران الحالية، وأمه فارسية! فحتى لو حدث الأمر كما يدعي، وذلك مستبعد بسبب المكان الذي يدعي أنه حدث فيه، وبسبب الظرف الموضوعي المحيط به أي المرور من بوابة تعج بالمسافرين، القادمين والذاهبين، فهو إن تم، وذلك مستبعد، فإنه ليس صفة لشعب كامل من جهة، وليس ذريعة لوقف خطوط الطيران وحملات (المعتمرين والحجاج) قاطبة! إنه أول حادث دولي في قطع التواصل الجوي لمثل هذا السبب!!
الحادث وتصعيده يمكن أن يقرأ من جانبين؛ القراءة الأولى، أن حجج طهران تجاه السعودية قد استنفدت كل ذرائعها ولم يبق إلا الجانب الأخلاقي لركوبه في بدء القطيعة، وبالتالي فتح معركة للإساءة للسلطات، وشغلها في مكان آخر بعيدا عن المعركة، والقراءة الثانية، أنه تسخين لما سوف يأتي بعده. إلا أن ما فات راسم تلك الهجمة أن الموضوع والتوقيت يشوبهما عوار بيِّن مفضوح، لأن أول ما يعرفه الراسخون في العلم أن «الجريمة» المدعاة إذا ارتكبت لا يعاقب عليها فاعل فقط، بل الفاعل والمفعول به! وقد فات من خطط للهجمة قراءة النصوص الصحيحة في هذا الأمر، كما أن فعل «التحرش» إن وجد، فهو ليس الفعل نفسه إنه مقدمة ربما لفعل! إلا إذا كان الأمر مبيتا في وقت لاحق للادعاء بالفعل تعظيمًا للهجمة والبحث عن تحشيد! نحن نعرف قبل الإعلان عن ذلك الخبر، أنه تم إرجاع طائرة إيرانية من الأجواء السعودية لأنها لم تكن مرخصة، وهذا أمر يعترف به القانون الدولي دون لبس أو تأويل، فهل كان ذلك الأمر هو الذي دفع السلطات الإيرانية لاختلاق موضوع «التحرش» لضرب عصفورين بحجر واحد، هو قطع الرحلات العادية، دون الإشارة إلى حق الدول في منع غير المرخص، وثانيا، تشويه أخلاقي يظن من وضعه أنه يمكن أن ينطلي على العقلاء، كلا الأمرين يقع في خانة «عذر أقبح من ذنب».


خطوط المعركة أصبحت واضحة، هناك ممانعة عربية واسعة ومصممة على وقف التمدد الإيراني في الخاصرة العربية، وهو موقف متفق عليه، بعد جهد دبلوماسي وسعة صدر واسعة تحلى بهما الجانب العربي، وكان مخلصا في محاولة إقناع متخذ القرار في طهران، أن التوسع يعرض المصالح العربية للخطر. التوجه السلمي من الطرف العربي في كل الفترة السابقة واضح لا لبس فيه، حتى ندلل على بعضه، فرغم كل الحشد الإيراني الإعلامي والتجنيد لبعض العرب لم تقم الأطراف العربية بالتعامل بالمثل، فهناك، على سبيل المثال أكثر من عشر محطات تلفزيونية تخاطب العرب نيابة عن حكومة الولي الفقيه، ولم تقم ولا محطة عربية واحدة بمخاطبة الجمهور الإيراني وشعوب إيران، احتراما لقواعد القانون الدولي والنأي بالنفس عن الخوض في مشكلات إيران الداخلية، كما تقوم إيران بتجنيد «الراغبين» للانخراط في مشروعها وتخريب أوطانهم من الداخل، ولم يفعل العرب ذلك، تلك بعض المؤشرات التي تنم عن الصبر الطويل الذي قطعت حباله الآن «عاصفة الحزم».


آخر الكلام:
يتجلى المأزق الإيراني في هذه العبارة التي نقلت عن السيد خامنئي «أنا لا أوافق على الاتفاقية التي عقدت مع الدول الخمس ولا أعارضها»!!