&مالك التريكي

&

&

&

&
أتت وفاة المؤرخ عبد الهادي التازي، تغمده الله بواسع رحمته، لتذكرنا بأننا أيتام أو نكاد. ذلك أن القامات الفكرية التي سخرت عمرها لخدمة الثقافة العربية الإسلامية قد مضت، بحيث لم يكد يبقى من الكبار أحد. جمع الدكتور التازي في شخصيته البحثية الرائدة بين علوم التاريخ والتحقيق واللغة (كان عضوا في أهم المجامع اللغوية ومعروفا بحبه للعربية ودفاعه عن التعريب). وإذا كان تحقيقه لرحلات ابن بطوطة (خمسة مجلدات ومستدركاتها) قد يعدّ أشهر أعماله عند الجمهور القارىء، فإن من أهم ما يميزه من وجهة نظري أنه اهتم اهتماما أصيلا بالتاريخ الدبلوماسي، علما أن تطور هذا المبحث هو الذي أدى إلى نشأة حقل العلاقات الدولية كاختصاص أكاديمي في الجامعات الأمريكية أوائل القرن العشرين.
ومن مؤلفاته في هذا المجال «التاريخ الدبلوماسي للمغرب»، «أوقاف المغاربة في القدس»، «الموجز في تاريخ العلاقات الدولية للمملكة المغربية»، «العلاقات المغربية الإيرانية»، «العلاقات التاريخية بين المغرب وعمان»، «الرموز السرية في المراسلات المغربية عبر التاريخ»، «تاريخ العلاقات المغربية الأمريكية» و»الأربعين الدبلوماسية في الآثار الإسلامية ذات الصلة بالعلاقات الدولية». وقد يكون هذا آخر كتبه، نظرا إلى أنه قدمه العام الماضي أثناء مشاركته في المؤتمر الثمانين لمجمع اللغة العربية في القاهرة.


وإذا رجعت إلى كتابه “الوسيط في التاريخ الدولي للمغرب”، وهو من ثلاثة مجلدات، فإنك واجد دررا ونفائس لا يخطر بعضها على بال. من ذلك أن الاتصال بين المغرب والحجاز قد كان قائما منذ ما قبل بدء الفتح الإسلامي لإفريقية في عهد عثمان بن عفان، حيث ينقل د. التازي أن وفدا مغربيا وصل «منذ الأيام الأولى لظهور الإسلام إلى مكة للاجتماع بالنبي صلى الله عليه وسلم والاستماع إليه قبل أن يهاجر إلى المدينة المنورة. ويتعلق الأمر بجماعة تتألف من «سبعة رجال» من قبيلة رجراجة أشراف قبيلة مصمودة، كان سيدي شاكر بن يعلى بن واصل على رأسها. وعن طريقها سمعت بلادنا بالإسلام أول الأمر على ما يرويه الإمام ابن سعيد السوسي المرغيتي».
والطريف أن التازي يستهل تاريخ علاقات المغرب الخارجية في العهد الإسلامي بالرسالة التي بعثها النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل، «عظيم الروم»، في السنة السابعة للهجرة (مايو 628 م) يدعوه فيها إلى الإسلام، والتي أورد نصها البخاري ومسلم.
لماذا؟ لأن بلاد المغرب (كامل الشمال الإفريقي) كانت عهدئذ ضمن الأراضي الواقعة تحت حكم هرقل (هيراكليوس) امبراطور الدولة الشرقية البيزنطية. وأمر هذه الرسالة مشهور، حيث أعقبها «استجواب عجيب في دقته وإحاطته أجراه هرقل لأبي سفيان الذي صادف أن كان آنذاك، بعيد صلح الحديبية، في تجارة في الشام مع وفد من قريش، فلم يجد بدا من أن يصدق الامبراطور القول بشأن حقيقة «هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي». وكانت نتيجة الاستجواب أن قال هرقل لأبي سفيان: «إن كان ما تقول حقا، فسيملك موضع قدميّ هاتين».


وبما أن هرقل عني بالرسالة وحفظها، فقد ظل المؤرخون متعقبين أخبارها مهتمين بمصيرها. ويذكر التازي أن ابن أبي زرع أشار في «الأنيس المطرب» إلى أن السفارة التي بعث بها ألفونسو إلى الخليفة الموحدي الناصر بن يعقوب عام 608 هجرية (1211م) تضمنت تقديم الخطاب النبوي لهرقل إلى الخليفة الناصر «توسلا وتشفعا».
ويقول التازي إن ذكر هذا الخطاب قد طوي لأربعة قرون تقريبا قبل أن «يثار من جديد على المستوى الدولي بواسطة الرسائل والسفارات المغربية»، حيث خاطب السلطان إسماعيل، جد الأسرة العلوية الحاكمة الآن في المغرب، ملك فرنسا لويس الرابع عشر بتاريخ 2 رمضان 1092 (15 أكتوبر 1681) بأنه «وقف في بعض المؤلفات على أخبار رسالة بعث بها نبيّنا إلى جدكم هرقل يطلب إليه فيها الدخول إلى الإسلام» وسأله إن كانت في حوزته. كما كتب السلطان في الغرض ذاته بتاريخ 15 شعبان 1109 (26 فبراير 1698) إلى جيمس الثاني ملك بريطانيا الذي كان آنذاك لاجئا في فرنسا.
وترددت أنباء عن وجود الرسالة «مكتوبة على رق غزال في حوزة أميرة عربية آلت إليها من ذويها الذين أوصوها أن لا تسلمها ـ عند الحاجة ـ إلا لحاكم مسلم».
ثم كانت المفاجأة عام 1977 عندما أعلن الملك حسين رحمه الله أن الرسالة لديه وأنها كانت «أعز ما تركه جده عبد الله بن الحسين الذي أودعها يدا أمينة».
ويورد التازي صورة عن «هذه الصحيفة» قائلا إنه وقف عليها «صباح عيد المولد النبوي 1398 (19 ديسمبر 1978) في قصر الهاشمية بضواحي عمان».
&