&تركي التركي&

&


في قلب صنعاء النابض بالحكمة اليمانية وفي عمارة صغيرة تقع على شارع الشهيد علي عبد الغني قضى الأديب والسياسي السعودي غازي القصيبي شهورا من عام 1965 موظفا في لجنة السلام المصرية - السعودية التي أقرتها اتفاقية جدة بين الملك فيصل والرئيس عبد الناصر تمهيدا لعودة السلام إلى اليمن بعد حرب أهلية مريرة.

نستذكر هذه العلاقة بين غازي وصنعاء، بين اليمن والسعودية، كما كان غازي ليذكرها، واليمن يعاني اليوم ما يعانيه، من شرذمة محسوبة عليه بإيعاز من دولة خارجية وبتواطؤ من رئيس مخلوع لطالما انتقد غازي سياساته المستهجنة تجاه احتلال الكويت في التسعينات الميلادية، دون أن يؤثر ذلك في علاقة غازي ومودته الخاصة لصنعاء واليمن، مرددا مع البردوني (معرّي صنعاء) "ماذا أُحدّث عن صنعاء يا أبتي؟!".

غازي الذي كان له في "عين العاصفة" حضورا فاعلا ولافتا إبان احتلال صدام الغاشم للكويت. من خلال زاويته الشهيرة في صحيفة الشرق الأوسط، أعطى دروسا وصورا إيجابية ومغايرة للمثقف الذي لا غنى عنه لأي وطن. مقالات غازي في تلك الفترة، والتي جمعتها دار جداول في كتاب يحمل عنوان الزاوية ذاتها "في عين العاصفة"، تقدم لنا اليوم ونحن في عين "عاصفة الحزم" مثالا ودروسا لا تنسى في الدفاع عن الوطن بالكلمة وبالحجة والبرهان، في وقت تكالب عليه الكثيرون، سياسيا وإعلاميا، ليقدم غازي حينها جبهة إعلامية وثقافية تصاعدت وتيرة حضورها بتصاعد أحداث ما عرف بعاصفة الصحراء في ذلك الوقت. ثم هدأت تدريجيا مع انقضاء العاصفة وعودة الأوضاع لطبيعتها. ليعلن غازي توقفه عن الكتابة في مقال ختامي مؤثر عنونه بـ "حتى نلتقي" بعد أن أدى كمثقف واجبه الوطني لما يقرب السنة، شارحا أمرا هنا أو معلقا على تصريح هناك، إضافة إلى سخريته السوداء اللاذعة التي بلغت أوجها مع مبادرات "أم صالح"، الشخصية الرمزية، التي وظفها غازي بذكاء أدبي، ليس بالمستغرب، ليثبت أنها أعرف بواقع الحال العربي بل والدولي من بعض الشخصيات السياسية أو الإعلامية "العروبية"، فاستحقوا السخرية تبعا لمواقفهم السياسية "المتخاذلة" حتى لو بالحياد. إذ أعلنها غازي مدوية منذ أول مقال في هذه السلسلة مخاطبا ومحذرا من أسماهم المحايدين: "قد يكون الحياد أعنف أنواع التدخل وأخطرها وأقل المواقف أخلاقية وأكثرها انتهازية".

ورغم الوضع الصعب والمرتبك حينها حتى من بعض الأطراف الداخلية المترددة بكل أسف تجاه الخيار الأنسب للمواجهة، إلا أن غازي كان مثالا للمثقف العارف الواثق الذي لطالما بحث عنه غازي نفسه في مناسبات وكتابات عدة ليصل إلى نتيجة مفادها: "المثقف الأنموذج هو من يكون لديه من الرؤية السياسية الواضحة ما يفوق رؤية الإنسان العادي، وأن تكون مواقفه الأخلاقية السياسية بالتالي أنوارا متلألئة يستضيء بها الناس العاديون".
&