&&أحمد مغربي

&

&

&

&

&


&

&

إنّها أشباح خضر تحوم حول نجوم محتضرة في أطراف الكون. ذلك آخر ما رأته عينا تلسكوب الفضاء «هابل» Hubble Telescope، بعد 25 عاماً من التحديق في أطراف الكون. من المثير للعقل أن ربع قرن من دراسة المجرّات، ما زالت تنقل التلسكوب «هابل»، ومعه أدمغة علماء الفلك وفيزياء الكون، من تحدّ علمي إلى آخر. ربما يعطي ذلك نموذجاً مكثّفاً عن مسار العلِم عموماً، إذ أنه لا يطمئن إلى شيء، بل يسير دوماً من سؤال إلى آخر، ويكاد لا يرسم إجابة عن ظاهرة ما، حتى ينتقل إلى أسئلة أكثر عمقاً عنها.

في البداية، كان مساره متعثّراً. انطلق في 24 نيسان (أبريل) 1990، واستقر بسرعة كبيرة في مداره على ارتفاع 560 كيلومتراً في الفضاء الكوني، لكنه لم يرَ شيئاً! واتّضح للعلماء أن عدساته لم تكن بالدقة المطلوبة. أرسلت مركبة فضائيّة لاستبدالها وضبطها. ثم تتالت المفاجآت المدهشة التي تمزج الإجابات عن أسئلة قديمة، بإثارة أسئلة أشد تعقيداً وعمقاً.

وباستعادة سريعة، من المستطاع القول إن أول ما أدهش العلماء هو أن الكون ما زال في حال من التفاعل وعدم الاستقرار على هيئة «نهائيّة»، بل كأن الكون رحم إمرأة ولود، فلا يكف عن «إنجاب» النجوم والكواكب.

جاءت إجابة «هابل» بنعم كبيرة على نظرية العالِم الفرنسي الشهير سيمون لابلاس (صيغت في 1796، بالاستناد إلى أعمال عمانوئيل كانط. وظهرت في كتاب «ميكانيكا الفضاء») عن تشكّل مجموعات الكواكب السيّارة حول النجوم. مثلاً، النظام الذي تنتمي إليه الكرة الأرضية يتألف من مجموعة كواكب سيّارة تدور حول نجم أصفر هو الشمس، إضافة إلى صخور متناثرة اخرى تشكّل الكويكبات والمذنّبات والنيازك وغيرها. الأرجح أن بداياتها كانت سديماً من غبار فضاء ضخم، تراكم على نفسه تدريجيّاً عبر حركة تدويم ودوران، في ظل أشعة وحرارة ضخمة. ثم تجمعت معظم كتلة السديم في مركزه الذي صار شديد الكثافة والسخونة والثقل، إلى حدّ أنه انفجر على غرار الانفجارات النوويّة.

بفضل ذلك الانفجار، ظهرت الشمس التي هي فرن ذري تأتي طاقته من استمرار تلك الانفجارات. فيما برد ما حولها تدريجيّاً ليشكل الكواكب الثمانية المعروفة. وتشتهر أفكار لابلاس باسم «النظرية السديميّة».

وحينها، شاهدت عين «هابل» مجموعات كواكبيّة تتشكل حول نجوم، بل أنها تتوالد في قلب سحب هائلة من سديم يشكّل مجرّات. ونقلت كاميرا «هابل» الصور التي غدت فائقة الشهرة، وحملت اسم «أعمدة التكوين»، في إشارة إلى تلك السحب السديمية الهائلة التي تتكوّن في بواطنها نجوم وكواكب. ويكفي وضع الاسم السابق بالانكليزية على محرك «غوغل» مثلاً، للحصول على الصور الرائعة التي باتت جزءاً من المناهج الجامعيّة والمدرسيّة عالميّاً.

استطراداً، أزجى التلسكوب تحيّة أيضاً إلى عالم الفضاء الأميركي إدوين هابل الذي حمل التلسكوب اسمه. إذ أعطى براهين مباشرة على صحة القول بنظرية «توسّع الكون» التي نادى بها هابل في مطالع العشرينات من القرن العشرين. وحينها، تعارضت نظرية هابل مع نظريات آلبرت آينشتاين الذي رأى أن للكون حدوداً ثابتة، بل أنه أدخل «تعديلاً» على معادلاته كي تتسق مع ثبات تلك الحدود. وعندما برهن له هابل مباشرة توسّع الكون، بفضل تلسكوب أرضي، تراجع آينشتاين واصفاً «التعديل» بأنه غلطته الكبرى!

وفي مقابل تلك الإجابات وغيرها، أثار «هابل» أسئلة لا حصر لها، بما فيها تلك المتعلّقة بالمادة المظلمة وأمدية توسّع الكون وغيرها. وتظهر الصور الأخيرة لـ «هابل» وجود «أشياء» غير معرّفه لها لون أخضر، تحوم حول نجوم انفجرت في أزمنة ماضية قبل أن تنطفئ. تعرف تلك النجوم باسم «كوازار» . ولم يتوصّل العلماء إلى تحديد هوية تلك «الأشباح الخضر»، بحسب وصف يرد على الموقع المخصّص للتلسكوب، بل أنهم يصفون حركتها بأنها فوضويّة ولا نمط محدّداً لها، وفق وصف ينقله الموقع عن البروفسور بيل كييل، اختصاصي علوم الفضاء في جامعة «آلاباما». كأن تلك الأشباح تحتفي باليوبيل الفضي لـ»هابل»، على طريقة علوم الفضاء في تحدي عقول الباحثين عن المعرفة.

والأرجح أن التلسكوب «هابل» لم يستنفد مفاجآته العلمية، ولم يتوقف عن إثارة العقول التي أرسلته إلى الفضاء، تحديداً كي يستمر في إثارتها واستفزازها وتحديها.
&