&

&

&

&في أوائل القرن الماضي كانت ماردين، الواقعة في أقصى الشمال الشرقي من تركيا، هي أكبر بلدات سنجق ديار بكر؛ وكانت وادعة في جغرافيتها، ولكنها عارمة باضطرام التحوّلات الناجمة عن دخول تركيا في الحقبة الكمالية وانسلاخها، بكثير من الآلام، عن ذاكرة الإمبراطورية العثمانية. ولكن ماردين تميّزت بتعدديتها الثقافية والديمغرافية، وحفظ أبناؤها العرب المسلمون مكاناً للأكراد والتركمان والأرمن والكلدان، قبل أن يأزف زمن الجائحة والتقاتل الإثني والمذابح (ضد الأرمن بصفة خاصة) والتهجير والتتريك القسري.


وفي أسرة أرمنية تمتهن التجارة ولد يوسف كرش في 23 كانون الأول (ديسمبر) 1908، ليشبّ بسرعة على رائحة الموت الفردي (وفاة شقيقته بالتيفوس) والموت الجماعي في الجائحة والمذبحة، وعذاب التفكك الأسري، وتبعثر أشقائه ملك وجميل وسليم في أكثر من بقعة واحدة بين تركيا وسوريا. هذا الحسّ التراجيدي المبكّر سيلازم الفتى طويلاً، وسيكون وراء إصراره على استكشاف وتسجيل أقصى مقدار ممكن من درجات الأسى في البورتريهات الكبرى التي سيصّورها.
كذلك ستلازمه عمارة ماردين المعلقة في حضن هضبة مستدقة، «تتدلى منها البيوت كجنائن بابل المعلقة، ثم تتهادى نحو خرائب القلعة التي شهدت هزيمة المغول على يد المسلمين، قبل أن تنحدر إلى الوادي بسرعة فوضوية، كأنها تسير إلى قدر مكتوب»، كما عبّر كرش في سيرته الذاتية التي صدرت بعنوان «بحثاً عن العظَمة».
وفي عام 1915 بلغ اضطهاد الأرمن ذروته الدامية، وتوجّب على يوسف أن يشهد بأمّ عينيه مقتل القريبين منه، واعتقال خالَيْه ووفاتهما في السجن، وهو الذي كان ينقل إليهما صرّة الزاد بصفة يومية، وإلقاء عمّته ناظلي في بئر كادت تموت فيه لولا أن بادر والده إلى رشوة جندي تركي سمح له بانتشالها. وفي عام 1922 سمحت السلطات التركية بهجرة الأرمن، فغادرت أسرة كرش إلى مدينة حلب السورية، وتركت وراءها كلّ شيء بما في ذلك أبواب البيوت المفتوحة على مصراعيها. وبعد إقامة قلقة قررت الأسرة إرسال الفتى إلى كندا حيث يعمل خاله هناك، فغادر إلى بيروت ليستقل الباخرة الفرنسية «فيرساي» ويصل إلى هاليفاكس في اليوم الأول من السنة الجديدة 1925.
وكان الخال جورج نقاش اسماً على مسمّى، إذ كان يعمل نقاشاً ومصوّراً فوتوغرافياً في بلدة شيربروك. وقبل أن يعقد العزم على توريث مهنة التصوير إلى ابن اخته، توجّب عليه أن يرسله إلى مدرسة لتعليم اللغة الإنكليزية لأن يوسف لم يكن يتكلم سوى العربية وكان، مثل معظم أهل ماردين، لا يتقن لغة أخرى قدر اتقانه للعربية الغالبة. وبعد سبعة شهور بدأ التدريب الفعلي على مهنة التصوير في ستوديو الخال، الذي أدرك سريعاً خصوصية علاقة الفتى بالجانب الفني من الصورة، فقرر إرساله لدراسة التصوير في بوسطن على يد جون غارو، أحد كبار أساتذة البورتريه الفوتوغرافي في أمريكا الشمالية بأسرها. تلك كانت أبرز الانعطافات في حياة يوسف كرش الفنية، وهنا امتلك البذور الأولى للأسلوبية الفريدة التي ستجعله نسيج وحده في فنّ وليد ولكنه متشعب وواسع. وسيسجّل كرش في مذكراته أن السنوات الثلاث التي قضاها متدرباً عند غارو علّمته درسين كبيرين: الحساسية الصافية تجاه مختلف تدرجات الضوء الطبيعي، والحسّ الفائق بقابلية الوجه البشري لعكس تلك التدرجات في مستويات تعبيرية ودرامية رهيفة.
وعند عودته إلى شيربروك قرّر كرش أن ميوله تنحصر شيئاً فشيئاً في البورتريه وليس المشهد أو الطبيعة الصامتة أو التصوير الصحافي. ولم يكن بحاجة إلى مفاتحة خاله في الأمر لأن الأخير أدرك نزوع الفتى، فنصحه بالسفر إلى العاصمة أوتاوا. وهناك، بدءاً بالعام 1932، تنقّل كرش في أكثر من ستوديو إلى أن استقرّ به الحال مصوّراً رسمياً في وزارات الدولة. وهذا الطور سوف يشهد توظيف الضوء الاصطناعي في القواعد البصرية التي تعلمها على يد أستاذه غارو، وسيشهد عملاً روتينياً وتقنياً صرفاً لا يتلاءم مع التفاعلات التي تعتمل في داخل الفتى.
ثم جاءت فرصة العمر…
كان ونستون تشرشل هو الوسيلة. ففي عام 1941 قام رئيس الوزراء البريطاني بزيارة خاطفة إلى كندا لإلقاء خطاب أمام البرلمان، في ذروة الحرب العالمية الثانية، وحين كان تشرشل في قمّة عنفوانه. وتوجّب أن يلتقط كرش صورة رسمية، لكنه اختار تنفيذ اللقطة التي ستدخل التاريخ وستخلد الرجل والمصوّر في آن معاً. وفي قرارة نفسه كان كرش يدرك أن احتفاظ تشرشل بالسيغارالشهير ليس التفصيل المناسب لهيئة التحدّي التي يريد تفجيرها في صورة قائد كبير يخوض حرباً كونية. ولكن أنّى له أن يقنعه بذلك! وفي اللحظة القاتلة، قبيل الضغط على زناد الكاميرا، سارع كرش إلى اختطاف السيغار من فم تشرشل، وحصل من «الأسد الهصور» على النظرة التي يريدها الفنان: التحدي والسخط والامتعاض والحيرة والإعجاب، في آن معاً. وبعد أيام معدودات كانت الصورة تتصدر غلاف مجلة» Life» في أكشاك بيع الصحف هنا وهناك في العالم، وأخذ اسم يوسف كرش يتردد في كل نقاش حول المغزى الخاص لنظرة تشرشل، أو «نظرة جزيرة صغيرة اسمها بريطانيا، توشك على هزيمة الرايخ الثالث بأسره».
وفي عام 1943 سافر كرش إلى بريطانيا موفداً من مجلّة Saturday Night الكندية، فصوّر عدداً كبيراً من الشخصيات الأبرز آنذاك، من أمثال أسقف كانتربري، وجورج برنارد شو، وهـ. ج. ولز، ونويل كوارد. ثم سافر إلى الولايات المتحدة ليعود منها بزاد إضافي جمعه في كتابه «وجوه القدر» الذي صدر عام 1947. وكانت هاتان الرحلتان قد دشّنتا بداية عهده بما سيسمّيه «الأوديسة الفوتوغرافية»، والتي قادته من قرى الزولو في جنوب أفريقيا إلى المعابد البوذية في اليابان، مروراً بالقطب الشمالي. وفي عام 1958 عاد كرش إلى كندا يحمل بورتريهات الرئيس اليوغسلافي تيتو، والرئيس الهندي نهرو، والملكة البريطانية إليزابيث، والرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور، والبابا بيوس الثاني عشر، والرئيس الكوبي فيديل كاسترو، والملك فيصل بن عبد العزيز، والعشرات سواهم من كبار ساسة الكون. وعاد أيضاً بالصور الأشهر لمئات الأدباء والفنانين، بينهم خوان ميرو، ألبيرتو جياكوميتي، أندي وارهول، ألبير كامو، توماس مان، كارل ساندبرغ ، فرانسوا مورياك، و. هـ. أودن، ياسوناري كاواباتا، تنيسي وليامز، أنا مانياني، وجيسي نورمان. وكلاسيكياته مجموعة في العديد من الكتب، بينها: «بورتريهات العظَمة»، 1959؛ و»حقيبة كرش»، 1967؛ و»وجوه من عصرنا»، 1971؛ و»بورتريهات كرش»، 1976؛ و»أساطير أمريكية»، 1992.
توفي يوسف كرش في بوسطن يوم 13 أيلول (سبتمبر) 2002، إثر عملية جراحية لم يُكتب لها النجاح. وحين صدر كتاب مشاهير العالم Who’s Who طبعة سنة 2000، كان كرش (إبن بلدة ماردين التركية، وحلب السورية) هو الكندي الوحيد في لائحة أهمّ مئة شخصية عالمية في القرن العشرين، و51 من هؤلاء كان لهم شرف الوقوف أمام عدسته.
&