سمير عطا الله

«فأبي سوداني أسود، وأمي ليبية ابنة واحد من كبار تجّار الرقيق في ليبيا في بداية القرن. وكانت جدتي من أمي جارية جميلة سوداء تزوجها جدي وأعتقها، وفي حضن هذه الجدة تربيت مدة من حياتي متشبعًا بتاريخ النخاسة».
لم يقدم شاعر لنفسه ولعذابه مثلما اختصر الفيتوري تلك الملحمة: جد يتاجر بالرقيق، وجدة جارية تزوجها الجد الآخر وأعتقها. وعلى يدها نشأ محمد النشأة الأولى، قبل أن ينتقل من وعورة بحر الغزال إلى الإسكندرية، ذلك العالم الأبيض «وتلك المدينة التجارية الكبيرة التي تسكنها الطبقة الأرستقراطية البيضاء، والتي لا تعرف الوجه الأسود إلا خادمًا لها»، كما قال محمود أمين العالم.


في الإسكندرية، أجمل وأهم حواضر المتوسط في الأربعينات والخمسينات، واجه الفيتوري المستعمر الأبيض، وانفتح أيضًا على عالمه. ورغم انتمائه العربي، ظل الفتى الأسود غريبًا وحزينًا وناقمًا على الاستعمار الذي يلاحقه من بحر الغزال. ولذلك، سرعان ما تأثر بأبي القاسم الشابي، الأفريقي الأبيض، شاعر الإرادة والألم: «كأني أسمع شبّابة/ حنينها الجارف يطوي الحدود/ كأنني أبصر ذا غربة/ يود من غربته أن يعود».


يتطلع الفيتوري في فتى تونس، فيخطر له أن يكتب إلى بلاده، «رسالة إلى الخرطوم»: «في الأرض حيران ضائع/ دام كثير المواجع/ أرنو إليك.. وأعدو/ كالطفل في كل شارع/ وأرتمي فوق حزني/ وفوق شوك المضاجع/ وبيننا يا بلادي/ ستارة من مدامع/ وصورة يا بلادي قد لونتها المفاجع/ والشعب كالنيل/ في عمقه انفعال المنابع/ راح الطغاة المساكين/ وانتهوا في المخادع/ والشعب ما زال يمشي/ ويسترد المواقع».


ألحق الفيتوري ظلمًا كبيرًا بشعراء السودان. احتكر بقصيده الجميل تكوّن أفريقيا، وعزة العروبة، وبؤس اليتم، وفقر بيوت القش على النيل. وهنا يلتقي شعره مع نثر الطيب صالح وقرى السحرة والقوارب الصغيرة العائدة في المساء خاوية، إلى البيوت الخاوية، والبطون الخاوية، والقلوب المليئة بأحزان الغروب وخواء الشروق.


«السودان والحركة الأدبية» مجلد من جزأين (1213 صفحة) للأستاذ حليم اليازجي (منشورات الجامعة اللبنانية 1985) يؤرخ للشعر السوداني في قرنين، شاعرًا بعد شاعر. ومن قراءته نعرف كم أن العرب أهملوا، دون عمد، موجة كبرى من الشعر والشعراء. ولعل مصر بأدبائها وشعرائها، ظللت أدباء الجارة الأخرى على النيلين، رغم أنها رعتهم أيضًا. وتجد بواكير الفيتوري في أوائل الخمسينات في مجلة «الرسالة» التي أعادت «دار سعاد الصباح» طبعها قبل نحو ربع قرن. كما تجد فيها أعمال سودانيين آخرين، أطلّوا ثم تراجعوا إلى الخيمة المحلية، فيما راح الفيتوري يضرب خيامه في كل أرض، إلى أن ذوى في أرض زوجته وابنته، على مقربة من الرباط. لكن ينسب إليه أن من بين جميع الأوطان، كان حنينه الخاص إلى لبنان. هنا، رأيت الفيتوري سعيدًا وضاحكًا. حتى بعد اشتعال الحرب، كان يفاجئني أن أراه في سهرة أو حتى في أمسية، كأنه يتحسس في ذاته ملامح جديدة لا فقر فيها ولا دمامة ولا شفة سفلى يأنفها في المرآة، ويكتب عليها القصائد. وقد كان الفيتوري إنسانًا جميلاً مثل غناء الزنوجة. وكان مسكينًا في الأنوف التي تشبه «مقبرة لم تتم»، وكان عظيمًا في الشعر وفي القلوب وفي الرجال. وكان أكثر نصوعًا من جميع قارات البيض.