سمير عطا الله

بين منتصف الخمسينات وأواخر السبعينات امتلأت المكتبة العربية بمؤلفات في القومية وفي اليسار وفي البعث. وتوزع الكتّاب ما بين فيلسوف عاقل، ومتفلسف غاضب، ومتطفّل ضَحْل، وصيّاح بلا صدى، وموهوب أو صادق أو مخلص. كان اليسار هو موضة العالم الخارجي أيضًا، يتزعّمه كتّاب كبار مثل جان بول سارتر وبرتراند راسل وسحرة أميركا اللاتينية. وانضم إلى الموجة شعراء غنائيون متفاوتو النغم والإبداع، وعلى مستوى شبه موحّد من الرفعة، أسماؤهم معروفة جميعًا لديكم، من نزار قباني، إلى أمير المتألمين بدر شاكر السياب، إلى كبير الضائعين عبد الوهاب البيّاتي. تفاعلت الحركة الأدبية العربية مع الحركات العالمية، فجاءت الترجمات على النحو نفسه تقريبًا، مع كتب ولسون والبير كامو وبابلو نيرودا ورجيس دوبري وغيرهم. وانتشر شعراء العراق وسوريا في المنافي القريبة والبعيدة، من براغ إلى موسكو إلى مقاهي بيروت المكتظة بذوي الأقلام والقضايا. كان تحرك الجميع رؤية متقاربة، أو متنافرة إلى غايات واحدة، أهمها الوحدة وخير المصير والشراكة في البحث عن الكرامة والانتصار. غير أن كل تلك المؤلفات والإيقاعات والتيارات رافقها خط نهائي واحد هو اليأس الذي أعطي يومها اسمًا آخر هو الوجودية، أو الواقعية، أو الرومانسية.


اليوم، تمتلئ المكتبات بآيديولوجيات أخرى لا مكان فيها لليمين أو لليسار، وإنما للتحارب والعنف والإلغاء وإحياء جميع أشكال الحروب الماضية ونبش التراث من أجل بذر الكراهية. ولم يعد هناك مكان للنقاش أو للعقل. ويلازم اليأس كل الإصدارات الجديدة ولكن على نحو مرير وحادّ تغيب عنه أنشودات السيّاب وآهات نزار ومحمود درويش، بل غابت عن المكتبة، دفعة واحدة، كتب فلسطين والبحث عنها أو عن حقوقها إلا من بعض المحاولات الخجولة. وفي الماضي كانت تتنازع الحركة الفكرية موجتا الحداثة والتراث، أما اليوم فهناك موجة تلوَ موجة من النكايات، والمحاججة العبثية، والتزلّم للتفرقة والرماد. وغابت المجلات الأدبية التي كانت تقود التيارات الفكرية، مثل «الآداب» و«شعر» لتحل مكانها مجلات بهيجة الألوان والزينة والإخراج، ولكن من دون أي محتوى شامل يعبِّر عن أحاسيس مشتركة مع سائر العرب.


في العقود الماضية تحوّل محور الثقافة على نحو جوهري. وسقطت تلقائيًّا من العقول والقلوب فكرة الدولة الواحدة. ولحق السياسيون بالمفكرين والشعراء في البحث عن حاضر أفضل ومستقبل وافٍ. وارتفع صوت البحث عن العدالة والدفاع عن الفقراء والمساكين الذين يملأون أنحاء العالم العربي. وتحولت الأمسيات الشعرية إلى تجمعات وجدانية راقية، الشاعر فيها هو البطل. وانضم إلى شعراء أهل المسرح وكتّابه الرسامون والفنانون كأنما العرب توحّدوا والتمّوا في مسيرة واحدة على طريق واحد حتى النهاية. يبدو كل شيء مفتتًا اليوم. الأصوات الشعرية الحانية أصوات من الماضي. والتيارات البانية مثل سواها من العمران تحت الركام والخراب، وبيروت التي كانت دار عبلة للمنفيين، صارت بلا مقهى وبلا أمسيات وبلا ظل سيابٍ آخر يرخي بظله الناحل على طول المدينة.