وبعد كل هذا يحدثكَ «المقاوِمون» عن «المشروع الأميركي»

إياد أبو شقرا

في كل يوم يمرّ على «عاصفة الحزم» يتأكد كَم كانت ضرورية.
ضرورية.. ومُبرَّرة لدى النظر إلى ما استثمره المتآمرون داخل الأراضي اليمنية على امتداد السنوات الأخيرة في بنى تحتية مذهبية وتنظيمية ولوجيستية، وما نُسج من علاقات قبلية ومصلحية مع الطغمة العسكرية التي جعل منها علي عبد الله صالح «ميليشيا عائلية» خاصة، تقاتل باسمه وتدافع عن مصالحه ومصالح مَن يختار أن يحالفهم اليوم.. قبل أن ينقلب عليهم غدًا.


الاستثمار هذا ضخم واستمر لسنوات، وهوّيته باتت معلنة لا غموض فيها ولا مواربة. ذلك أن ما بدا قبل بضع سنوات مجرّد انتفاضة لجماعة مذهبية صغيرة محصورة في قطاع جبلي قصي بشمال اليمن، ها هو ينكشف بكل أبعاده الداخلية والإقليمية، بل والدولية أيضًا.


«الحركة الحوثية» كانت حقًا رأس جبل جليد. إنها «الجزء اليمني» من مخطّط واسع يتكشّف الآن فصولاً تبدو ظاهريًا مؤسفة ومخيّبة للأمل، من ردهات الأمم المتحدة إلى بعض المواقف الدولية المهادنة للحاضنة الإيرانية للحوثيين. لكن انكشاف هذه الفصول في الحصيلة النهائية إيجابي جدًا، لأنه يضع في واقع الأمر نهاية للغايات المُبيّتة التي تستهدف تدمير العالم العربي وتقسيمه.. وبالنتيجة، تقاسم القوى الغربية النفوذ في المشرق العربي.


فضح «عاصفة الحزم» هذا المخطّط هو ما أثار موجة الافتراءات والتهجّم المسعور، وفبركة الإشاعات الرخيصة والدسائس عبر ماكينة «الحرب الإعلامية» التي أسستها وغذّتها إيران - على امتداد المنطقة - وها هي تحرّكها بلا هوادة. وهنا يجب القول إن إيران استفادت طويلاً من سلبية الإعلام العربي وتشتّته وارتباك منظوره.. إزاء ما يمكن تقبّله وما لا يجوز السماح به.


غير أن سوء حال الإعلام العربي، بينما كانت إيران تموِّل مؤسسات «حربها الإعلامية» داخل المنطقة وخارجها، ليس وحده المسؤول عن تأخرنا في إدراك أبعاد الخطر وقراءة الأحداث على حقيقتها. فهناك الانقسام السياسي حتى بين الدول العربية التي اعتادت إغداق المجاملات «الأخوية» وتبادلها، وكتم المشاعر الحقيقية والهروب من معالجة الخلافات ومواجهة الحقائق. وعليه، كان من الطبيعي أن يؤدّي هذا الانقسام إلى انعدام القدرة على التخطيط الاستراتيجي، الطويل الأمد، سياسيًا وإعلاميًا ودبلوماسيًا وحتى عسكريًا. ولئن كانت المحنة السورية «المفصل» المؤلم الذي كشف الرِّياء العربي بأبشع صورة، فإن المؤامرة «الحوثية - الصالحية» في اليمن أكدت هذا الواقع وأضافت إليه أبعادًا إضافية.


قبل أيام عندما شنّت قوى ودُمى، عربية الأسماء إيرانية الهوى، حملة افتراءاتها عادت إلى نغمة «العداء لإسرائيل» واتهام من يتصدى لمخطط الهيمنة الإقليمية الإيراني بأنه يعمل في خدمة «المشروع الأميركي»! ولكن المشكلة مع مروجي هذا النوع من التضليل، ذات وجهين: الأول أنهم لا يحترمون ذكاء مستمعيهم، والثاني أن ذاكرتهم إما انتقائية أو ضعيفة.


ساعات قليلة فصلت عملية «عاصفة الحزم» عن إعلان «الاتفاق المبدئي» الإيراني - الأميركي حول ملف إيران النووي، وهو اتفاق يعتبره الرئيس الأميركي باراك أوباما أعظم منجزات عهده الميمون. ومن أجل إرضاء قادة طهران لم يتردّد أوباما حتى في فتح معركة مع مناصري إسرائيل. وفي الوقت نفسه، انصبّ جهد «اللوبي الإيراني - الأميركي»، الذي رعى تأسيسه وزير الخارجية الحالي محمد جواد ظريف، على كسب ودّ القوى المناصرة لإسرائيل.. عن طريق طمأنتها إلى أن «لا نيات عدائية لإيران إزاء إسرائيل»، بل إن بعض العرب - تحديدًا، عرب الخليج - هم أساس البلاء والعداء ورعاة التطرّف والإرهاب. وكانت هذه أيضًا الرسائل الإيرانية الموجّهة إلى القيادة الأميركية نفسها، والتي يبدو، للأسف، أن التيّار المحيط بالرئيس أوباما تقبّلها واقتنع بها، بدليل الخطوات العملية الأميركية في منطقة المشرق العربي منذ ما لا يقل على أربع سنوات.


وفعليًا، واشنطن اليوم تعزّز في العراق - بدعمها حكومة بغداد الحالية - «المكتسبات» التي تحققت لإيران من الغزو الذي أعدّه ونفذه عام 2003 «المحافظون الجدد» المحسوبون من أشد حلفاء إسرائيل إبان إدارة جورج بوش الابن. ولا بأس هنا من الإشارة إلى أن طهران رحبّت يومذاك بالغزو «الصهيو - أميركي» - حسب مصطلحات جماعة «المقاومة» و«الممانعة» - ولم تقف ضده. أما في سوريا، فكما نرى، لا إسرائيل تحمّست ولا واشنطن نشطت لإسقاط نظام «الممانعة» في دمشق بعد أربع سنوات من ثورة شعبية جارفة هجّرت نصف الشعب وقتلت مئات الألوف. ومع هذا، ما زالت أبواق النظام والمدافعون عنه يرشقون خصومهم بتهم العمالة لإسرائيل وأميركا!
اليوم حتى روسيا، «الضلع الثالث» في «مثلث» التآمر على وحدة الشرق الأوسط، تقف في أروقة الأمم المتحدة داعمة الحوثيين ورعاتهم، وهي التي كانت حجّتها عندما استخدمت «الفيتو» ثلاث مرات ضد الشعب السوري، إنها إنما تدعم «حكومة شرعية قائمة ضد متمردين متطرفين طائفيين»!
كيف ينطبق هذا في قاموس موسكو على سوريا ولا ينطبق على اليمن؟! وكيف يمكن فهم مثل مواقف كهذه بمعزل عن وجود مؤامرة دولية حقيقية هدفها إجهاض أي مبادرة عربية أو إسلامية شجاعة فعّالة توقف مسلسل المآسي، وتنهي الفتنة المذهبية، وتمنع إعادة رسم الخرائط.


العجز العربي ما عاد يحتاج إلى دليل وها هي سوريا شاهدة. غير أننا قد نجد أنفسنا إزاء عجز إسلامي مُفزع في اليمن، إذا صدّقت الدول الإسلامية الكبرى مناورة «الأخوة الإسلامية» كما تروّج لها طهران... وأهمية «الحلول الدبلوماسية» التي تسعى لفرضها واشنطن.


لقد شلّ حكام إيران قدرة العقل العربي على تحليل الأمور برفعهم شعارات «تحرير فلسطين» و«العداء لإسرائيل» من دون أن يعنوه. والآن جاء دور خداع المسلمين... كل المسلمين. وهكذا، علينا أن نعلم اليوم - من دون أوهام - أن كلمة «المقاومة» كما يردّدها «حوثيو» المنطقة من لبنان والعراق إلى اليمن إنما تعني «الهيمنة الإيرانية»... أما «الممانعة» فتعني «شلّ العمل العربي المشترك» تسهيلاً لتلك الهيمنة.
... وبعد كل هذا يحدّثونكَ عن «المشروع الأميركي»!