عرفان نظام الدين

لا يمكن فصل ما يجري في عالمنا العربي هذه الأيام من حروب، وأزمات وصراعات، وما يرتكب من جرائم ومذابح وموبقات وأخطاء وخطايا، وما يطفو على السطح من تطرف وإرهاب وتعصب وأحقاد، عن الحقائق التاريخية والخلفيات والأسباب الجوهرية التي تلخص بكلمة واحدة، وهي العلاقة بين الحاكم الغالب بأمره والمحكوم المغلوب على أمره.

&

فأصل المشكلة يكمن في غياب أدنى مقومات العلاقة السليمة الصحية بين جناحي الوطن الواحد وانعدام وجود أي عقد اجتماعي واضح وصريح بينهما يعطي لكل صاحب حق حقه ويحدد أسس الحقوق والواجبات ويضع ضوابط التعاون لحماية المصالح العامة ومصلحة المواطن أولاً، ثم تأمين الأمن والأمان والاستقرار وترجمة المبرر الأساسي لوجود مثل هذا العقد، وهو أن الحاكم هو خادم الشعب والمسؤول عن تأمين متطلباته والدفاع عن أرضه وعرضه بواسطة قوى الجيش والأمن التي يجب أن تُسخر لحمـاية المواطن لا لإرهابه وقمعه.

&

ومن يستعرض حوادث قرن من عمر العرب، يدرك أن أصل البلاء يعود إلى أن كل هذه المبادئ غائبة عن الساحة حين تحول المسؤول إلى حاكم بأمره يتفرد بالحكم والمغانم، بينما تحول المواطن إلى بقرة حلوب أو إلى خادم مطيع لا حول له ولا قوة ولا حق ولا أمل. وأدى هذا الخلل إلى إحداث هوة سحيقة بين الطرفين عنوانها غياب الثقة وتبادل «فوبيا» الخوف المتبادل: فالحاكم يخشى ثورة المواطن، والمواطن يرتعد خوفاً من بطش الحاكم، وهو ما شهدناه جلياً في فصول «الربيع العربي» الذي أجهض وتحول خريفاً عاصفاً يزرع الرعب ويسفك الدم ويدمر البشر والحجر.

&

والمؤسف أن الجهات التي يفترض أن تكون الملجأ وصدر الأمان للمواطن، تحولت أدوات رعب، ما أدمى قلوبنا عندما شهدنا أطفالاً يصابون بهستيريا الخوف لمجرد رؤية رجل يرتدي الزِّي العسكري. بل إن أكثرنا مصاب بهذه الـ «فوبيا»، بكل أسف، وأذكر أننا عندما وصلنا إلى لندن قبل ٤٠ سنة كنّا عندما نلمح رجل بوليس أمامنا نهرع إلى الرصيف الآخر خوفاً من أن يسألنا عن ديننا أو مذهبنا أو أفكارنا ويحاسبنا على نوايانا. ومع الأيام، اطمأن قلبنا وشفينا من هذه الآفة حتى أن الأديب والروائي الكبير الأخ زكريا تامر قال لي ساخراً أنه كان يتمنى أن يوقفه شرطي ولو لمرة واحدة ليسأله أي سؤال، لكن هذا لم يحدث، فخاب أمله وصار يتعمد أن يلجأ هو إلى إيقافه وسؤاله عن عنوان أو أي أمر، فيحييه الشرطي بأدب وبكل احترام ويجيبه والبسمة لا تفارق شفتيه ليبتعد عنه وهو يشعر بخيبة أمل أخرى لأنه لم يكن فظاً غليظ القلب.

&

وعلى رغم هذه الصورة الكاريكاتورية، فإن هذا هو الواقع الذي يعيشه المواطن في الدول الديموقراطية. فالثقة هي جوهر العلاقة بين السلطة والشعب والاحترام متبادل وكل طرف يؤدي واجبه وينال حقوقه ويعرف حدوده ولا يتجاوزها تحت مظلة القانون. وعند توافر هذه القيم لا يعود هناك من مجال لخوف من المستقبل أو رعب من التغيير الديموقراطي عندما تتأمن العوامل الكفيلة بممارستها.

&

ملخص الحلول يحدد بدقة وفق مفاهيم كلمات معبرة، تشكل كل واحدة منها أساس الحياة العامة السليمة وعماد المستقبل الآمن والزاخر والمستقر: الحرية، المشاركة، الحقوق، الواجبات، الوطنية، المواطنة، المساواة، العدالة، القانون، الاحترام، المحاسبة، مع لاءات لابد منها ومنها: لا للتفرد، لا للاجتثاث، لا للإقصاء، لا للعنف، لا للتطرف، لا للإرهاب.

&

ولو أجرينا قياساً على هذه الكلمات في ديارنا وتاريخنا وممارساتنا العامة والخاصة، لشعرنا بالأسى والحزن لغيابها من قواميسنا وفهمنا لماذا وصلنا إلى هنا، ومتى عرف السبب بطل العجب؟! فمعظم هذه القيم، إن لم تكن كلها محرّمة أو ممنوعة، ومعها مقومات العقد الاجتماعي ومفاهيمه البديهية، وهي الفيصل في تحديد العلاقة بين الحاكم والمحكوم ومنع التفرد والاستئثار بالحكم، ولاسيما في القرارات المصيرية مثل الحرب والسلم وما يتعلق بلقمة العيش وحاجات المواطن وحقوقه الأساسية والأمل بمستقبل أمن له ولأولاده وأحفاده في إطار حوار دائم ومشاركة فعالة وكاملة.

&

هذه المقدمة المعبرة قد تبدو بديهية لأي إنسان حر وعاقل، لكنها أصبحت من المستحيلات في عالمنا العربي. وتحولت إلى ما يشبه الأحلام الوردية الممنوعة والتمنيات الجميلة البعيدة والرغبات الجامحة المحرمة. مناسبة الحديث عنها استوحيتها من رسالة معبرة حركت مشاعري وقلبت علي المـــواجع، وهي كثيرة، ما أن تهدأ قليلاً حتى تـــتأجج نـــيرانها مجدداً، كما حدث خلال السنوات الأربع المنصرمة. فقد فوجئت قبل أيام برسالة تحمل اسمي وعنواني وموجهة إلى شخصي الضعيف ومذيلة بتوقيع رئيس وزراء بريطانيا (العظمى؟!) ديفيد كامرون يناشدني فيها التصويت لمصلحة حزبه (المحافظون) في الانتخابات العامة التي ستجري بعد أيام، ولا أدعي أنه خصني لوحدي، وأنا الغريب، بهذه الرسالة، بل أجزم بأنه وجه مثلها إلى كل مواطن. وهذا تقليد يخاطب به الحاكم الشعب باحترام ويطلعه على أدق التفاصيل في برنامجه الانتخابي وسياسة حكومته خلال فترة حكمها في حال الفوز في الانتخابات. كما أن ممثلي الأحزاب المتنافسة يقومون بجولات شاملة للالتقاء بآلاف المواطنين لشرح سياساتها وإقناعهم بصوابيتها ودعوتهم إلى المشاركة في تقرير مصيرهم، ثم تترك لهم حرية الاختيار بكل لباقة وهدوء، بعيداً مما عهدناه من وعيد وتهديد وترهيب وترغيب؟

&

هذا هو الواقع بلا زيادة ولا نقصان ولا مبالغة، واقع الاحتكام إلى صندوق الانتخاب واحترام حق المواطن في التعبير عن قناعاته واتخاذ الموقف المناسب لمصلحة الوطن ومصلحته العائلية والشخصية، مع الأخذ في الاعتبار أن برامج الأحزاب تركز على قضايا المواطن ومطالبه العادلة، بكل تفاصيلها مثل الضرائب والرعاية الصحية والاجتماعية والتعليم والتنمية وفرص العمل، ضمن خطط تأمين الرخاء والاستقرار والأمن والأمان والتأكيد على حماية الحقوق والحريات العامة والخاصة وتحديد الواجبات الضرورية لتأمين التوازن وتوزيع المسؤوليات. أما السياسة الخارجية، فالحديث عنها مقتضب وواضح لأنها لا تتغير مع تغير الفرد أو الحزب الحاكم أو تتبدل وفق مزاج الحاكم وانفعالاته وردات الفعل المتسرعة والمواقف الشخصية من دولة ما أو حاكم آخر لا يرتاح إليه أو يختلف معه في المواقف، فهذه السياسة ثابتة وطويلة الأمد ومتفق عليها لا فارق بين موالاة ومعارضة إلا في بعض التفاصيل أو في حال وقوع حوادث مفاجئة تمس أمن البلاد وما يتطلب من مواقف تأخذ في مقدمة اعتباراتها المصالح الدائمة للدولة بعيداً من العداوات والصداقات الدائمة أو الآنية.

&

رسالة رئيس الحكومة البريطانية تبدو شخصية، لكنها في الواقع تمثل نهجاً ديموقراطياً يدل على احترام المواطن بصرف النظر إن كان أصيلاً أم متجنساً (وهي شتيمة في بعض الدول). وقد خاطبني بكل لباقة طالباً أن أطلع على برنامجه واتخاذ القرار المناسب وتحكيم ضميري عند الإدلاء بصوتي، لأنه يحدد مصير البلاد والعباد (؟!) ويساهم في رسم صورة المستقبل (وفق قوله) وهو الشعار المرفوع في الانتخابات.

&

فكل العالم يتحدث عن المستقبل وبرامجه وخططه ووسائل مواجهة الاستحقاقات المرتقبة للعبور إلى شاطئ الأمان بسلام إلا العرب، فهم يعيشون على الماضي وجراحه وتعقيداته وعقده ويرضون، بكامل إرادتهم، أن يسقطوا أسرى أحقاده (وتاراته)، ويسجنون أنفسهم في قمقمه ولا يترددون في إشعال نار الفتن والنزاعات التي تدمر البشر والحجر، استحضاراً لحدث وقع منذ مئات السنين لأسباب واهية وخلافات على سلطة أو أرض أو مال. آفة التعصب قتلت الآمال، ومعها مجريات الجدل العقيم حول من المسؤول عن حرب نشبت أو جريمة ارتكبت في الماضي، وكأننا لم نخرج بعد من العصور الجاهلية ولم نتعلم من دروس ما جرى، وعبره لنخرج من فتنة ونقع في أتون فتن أكبر وأخطرها الفتن الطائفية والمذهبية والعرقية وما تجره من أحقاد وتطرف وإرهاب وموبقات تبنى على وقعها المواقف وتتخذ القرارات الانفعالية.

&

لا احترام للمواطن ولا وازع من ضمير، ولا حب للوطن (إلا بالشعارات) ولا استعداد للتضحية من أجله، بل جفاء بين الحاكم والمحكوم وخوف ورعب وحذر متبادل. نعم هناك فارق، وللتدليل عَلى ذلك أستشهد ببعض ما جاء في رسالة الرئيس كامرون:

&

«عزيزي عرفان نظام الدين،

&

بعد أيام قليلة، أنت والناخبون تواجهون خياراً مهماً لمستقبل بريطانيا، من سيحكم البلاد خلال السنوات الخمس المقبلة... وبعد شرح سياسة حزبه (المحافظون) وبرنامجه الانتخابي الرامي إلى تأمين الرخاء والنمو وبناء الاقتصاد القوي، يؤكد أن كل ما فيه له هدف واحد هو تحقيق ما يصبو إليه المواطن وضمان حقوقه ورعاية عائلته وكل ما يتعلق بتوفير حياة كريمة وتحسين مستوى الخدمات العامة والأمور المعيشية الأخرى. ثم يشرح الفارق بين برنامجه وبرامج الأحزاب المنافسة بكل احترام، وبلا تجريح ولا شتائم ولا اتهامات.

&

ويختم كامرون رسالته المطولة برجاء وأمل بأن أصوِّت لمصلحة مرشحة حزبه في منطقتي لأسهم في تنفيذ إصلاحاته وبرامجه «من أجل أولادنا وأحفادنا وآمالهم وأحلامهم، فلنعمل معاً لتأمين مستقبل أفضل لعائلتك ووطنك، لأننا لا نحتمل خطر تعريضه للخطر من جانب أي أحد».

&

وبدوري، أسأل أي إنسان عربي: ما هو شعورك وأنت تعيش هذا الإحساس عند تلقيك رسالة مماثلة لا تجد فيها تهديداً ولا وعيداً أو ترغيباً بمنفعة خاصة ورشوة رخيصة بحفنة من الدولارات؟ ولماذا وقعنا في أتون كل هذه الحروب والصراعات والدمار الشامل؟ ومن المسؤول عن كل هذه الجرائم؟ وأين مبدأ التداول على السلــــطة؟ وأين حقوق المواطن وآماله وأحلامه بمستقبل زاهر وبحياة آمنة لأطفاله؟ بل أين قيم الاحترام بين الحاكم والمواطن؟ الجواب في قلب المواطن وليس في ضمير الحاكم.
&