سمير عطا الله

كانت الأدبيات العربية في الماضي تتهم «الإنجليز» بأنهم من اخترع سياسة «فرق تسد». وذلك لأن البريطانيين كانوا قد خرجوا من المنطقة للتو. وعندما أعدنا النظر في تاريخ الحكم العثماني، اكتشفنا أنه استخدم التفرقة كالتنفس. ومن ثم وجدنا كل دولة لها علاقة بلبنان، تضع سلاح الفرقة على نار دائمة.


إذ تقرأ في كتاب هنري كيسنجر «النظام العالمي»، وهو أحد الذين لعبوا اللعبة في العالم العربي، تكتشف أن أبا نظرية التفرقة هو الهندي كاوتيليا، صاحب التعاليم المعروفة بـ«الأرثا شاسترا»، وقد سبق مكيافيللي الإيطالي بقرون. يقول الفاضل المذكور إن مصلحة كل حاكم تقضي زعزعة حكم جيرانه. لا قبول بالتعادل مع الآخرين، فلا بد من التفوق الدائم عليهم.


أيضا: إن الطريقة الأقل علانية والأوفر حكمة هي إثارة الشقاق بين الجيران، أو الحلفاء: «لدفع ملك جار إلى محاربة جار آخر، وصولاً إلى منع الجيران من التلاحم. ومن شأن بعض الحلفاء أن يصبحوا أعداء، والعكس بالعكس».
وأعطى كاوتيليا، الفاضل، أهمية كبرى لنشر أعمال التجسس والتخريب في دول الجوار، أصدقاء وأعداء، عن طريق «النساك المقدسين، الرهبان الجوالين، سائقي العربات، المشعوذين، المتسكعين والمنجمين، ومن شأن هؤلاء جميعًا نشر الإشاعات لغرس الفتنة والشقاق لتقويض جيوش العدو».


المفارقة أن مصلحة بريطانيا كانت في توحيد الهند وتحويلها من ولايات متفرقة إلى دولة تربط فيما بينها وسائل النقل والحكم المركزي والمصالح، إضافة إلى اللغة الإنجليزية المشتركة. وفوق كل شيء عملت على إحياء الروح الهندية وأشكال التراث وروابطه. وأفادت الهند من كل ذلك في حملتها من أجل الاستقلال. وأفاد غاندي بصورة خاصة من الصحوة الروحية، مذكرًا البريطانيين دومًا بتعاليم الحرية التي درسها الهنود في مدارسهم.


بعكس كاوتيليا وتعاليمه، سعت الهند إلى الجمع بين الأمم. ابتعد نهرو عن الحرب الباردة بين الأميركيين والسوفيات، وجعل يدعو لكتلة واحدة من الدول الأفريقية والآسيوية المتحررة حديثًا. لم يشأ أن يستبدل استعمارًا مباشرًا. غير أن هذه الهند نفسها، ما لبثت أن استخدمت القوة العسكرية لتقسيم غريمتها الكبرى باكستان إلى دولتين، إحداهما بنغلاديش. ولا هي ترددت أيضًا في الذهاب إلى الحرب ضد الصين، برغم دفاع نهرو عن التعايش السلمي.


على أن ذلك كله أصبح تاريخًا الآن. فالهند الاشتراكية أصبحت، منذ أواخر القرن الماضي، شريكة للعالم الرأسمالي. وصارت شركاتها الكبرى تمتلك عددًا من كبار المؤسسات الغربية. وفي هذا «العالم الرأسمالي» الجديد، تتنافس مع الصين على الموقع الممتاز على السلم الاقتصادي العالمي.