إياد أبو شقرا

إذا قيّض للحكم الصادر أخيرًا عن المحكمة العسكرية في بيروت بحق الوزير والنائب اللبناني ميشال سماحة أن يكون نهائيًا، فإنه سيغادر سجنه خلال سبعة أشهر، هي ما تبقّى له من إجمالي فترة «محكوميته» البالغة أربع سنوات ونصف السنة.


لمن يهمه الأمر، «سنة سجن» وفق القانون اللبناني تعني تسعة أشهر وليس 12 شهرًا. وسماحة أقرّ، بصوته وصورته، بنقل متفجّرات لاستهداف تجمّعات وإفطارات رمضانية وقتل شخصيات سياسية ودينية مسلمة ومسيحية وأشخاص أبرياء يتصادف وجودهم في الأماكن المقرّر استهدافها. وأقرّ أيضًا بأنه ضالع بجريمته الجماعية بالتنسيق مع رئيس جهاز أمني غير لبناني هو اللواء علي المملوك، أحد أركان الجهاز الأمني في النظام السوري.
ووفق التحقيق القضائي، كانت غاية مؤامرة سماحة – المملوك إشعال فتنة طائفية أمنية في لبنان تتيح مجدّدًا لما كان يُعرَف بـ«النظام الأمني السوري - اللبناني»، التابع لحكّام إيران وحرسهم الثوري، وضع اليد على البلاد، وذلك لأول مرة بعد سحب الأسد جيشه عام 2005 إثر جريمة اغتيال رفيق الحريري ورفاقه و«الانتفاضة الشعبية» التي نتجت عنها.


حُكم المحكمة العسكرية «المخفّف جدًا» صدم قطاعًا واسعًا من اللبنانيين يدرك أن ما ارتكبه سماحة أكبر من مجرّد «نقل أسلحة ومتفجرات»، بل كان يشمل التخطيط للقتل، وإثارة فتنة طائفية لا تُبقي ولا تذَر.. ولا تُحدّ تداعياتها. وهو يشكل إهانة للعدالة في لبنان حيث يسجن موقوفون في رومية لسنوات مع أنه لم تصدر بحقهم أحكام. ولكن من دون الخوض في متاهات قانونية يجب القول إن سماحة ما كان لينفذ جريمته منفردًا، أو حصرًا مع شريكه علي المملوك.
ففي لبنان «واقع احتلال»، لا تنفع التعابير المهذبة بتغييبه أو تجهيل بطله. وأصلاً، عندما كان معظم اللبنانيين يوجّهون أصابع الاتهام لنظام الأسد بقتل الحريري ورفاقه، كان السيد حسن نصر الله، أمين عام حزب الله، يقدّم الهدايا للقادة السوريين الأمنيين الذين تحكّم جهاز «أمنهم واستطلاعهم» بمقدّرات اللبنانيين لثلاثة عقود، تحت شعارات «شكرًا سوريا». هؤلاء أسهموا تحت أوامر أسيادهم في طهران ببناء «دويلة حزب الله» التي مرّ بعض الوقت قبل أن ينكشف حجمها ودورها وولاؤها الحقيقي.


دلالة المشهد ذلك اليوم كانت أبلغ من أن تعبّر عنها كلمات..
غير أن تظاهرات «شكرًا سوريا» يوم 8 مارس (آذار) عام 2005 استولدت ردّ فعلٍ شعبيًا عفويًا يوم 14 مارس غصّت معه ساحات بيروت بشعب اكتشف نفسه وثأر لكرامته، فولّدت قوة الدفع التي أخرجت بعد أسابيع القوات السورية من لبنان، وأنتجت تيار «14 آذار» الاستقلالي العابر للطوائف والأحزاب. لكن ما حصل فعلاً هو أن «محوَر طهران – دمشق» خسر جولة ولم يخسر الحرب. وكل خسارته في حينه ما زادت عن اضطراره لإخراج حزب الله من ظل «النظام الأمني السوري – اللبناني»، وتسليمه علنًا المهام الموكلة إليه أصلاً، بعدما ظل لسنوات عديدة يعمل ويبني ويتوسّع بصمت.


نعم، بعد انسحاب القوات السورية اضطر الحزب لأن يسفر عن وجهه، فيضطر للجَهر بمعاداة فريق كبير من اللبنانيين، بعدما كانت شعارات «المقاومة» التي يرفعها مُقنعة حتى لمن يخالفونه المواقف، ولأولئك الذين لم يتنبّهوا في حينه لتحفظه على «اتفاق الطائف».


ومن ناحية أخرى، بدأ «محوَر طهران – دمشق» عبر أدواته من المسيحيين عملية اختراق الكتلة المسيحية في تيار «14 آذار» لشقها من الداخل. وتم له ما أراد إثر التفاهم مع ميشال عون، الذي طالما صدّق مناصروه مزايداته «السيادية» و«الاستقلالية» وادعاءه العداء للحكم السوري وأبوّته «قانون محاسبة سوريا» في الكونغرس الأميركي و«قرار مجلس الأمن الدولي 1559». ومع إكمال عون تحالفه مع حزب الله وأتباع دمشق في لبنان تأمّنت التغطية المسيحية المطلوبة لإسباغ شكل «وفاقي» على «المحوَر» بحلته الجديدة، لا سيما بعدما بدأت تظهر شكوك حول تورّط عناصر في حزب الله بتنفيذ اغتيال الحريري ورفاقه، بالإضافة إلى شخصيات سياسية وإعلامية وأمنية محسوبة على «14 آذار» جرت تصفيتها تباعًا.


حزب الله، مستفيدًا من غطائه المسيحي، رفض التجاوب مع المحكمة الدولية المشكلة للتحقيق في اغتيال الحريري وتسليم المشتبه بهم من عناصره، بل شنّ حربًا شعواء على خصومه. وأخذ يتصرف في الساحة اللبنانية كما هو حقًا.. «دولة داخل الدولة». وفي صيف 2006 نفذ خارج علم الحكومة (المشارك فيها) عملية لخطف عسكريين إسرائيليين عبر «الخط الأزرق» تسبّبت في حرب دمّرت خلالها إسرائيل جزءًا كبيرًا من البنى التحتية والمرافق الاقتصادية وهجّرت مزيدًا من اللبنانيين. ثم احتل الحزب مع حلفائه وسط بيروت ضاغطاً لاستقالة الحكومة الشرعية.


وبعدها، في خضم المواجهة المفتوحة التي قادها مع الحكومة، ومع استمرار مسلسل الاغتيالات والشك بدور الحزب وبعض الأجهزة الأمنية، لا سيما في مطار بيروت (رفيق الحريري) الدولي، اجتاحت ميليشيا الحزب يوم 7 مايو (أيار) 2008 بيروت، وهاجمت منطقة الجبل ردًا على اتخاذ الحكومة قرارًا بتفكيك شبكة الاتصالات الخاصة به وبإحالة مدير المطار للتحقيق، وعمل على تعطيل انتخاب رئيس للجمهورية، إلى أن أمكن التوافق في الدوحة – تحت ضغط احتلال العاصمة – على انتخاب قائد الجيش ميشال سليمان للمنصب.


غير أن معركة حزب الله ضد الشرعية اللبنانية لم تتوقف. بل عمد إلى التصعيد لإسقاط «حكومة الوحدة الوطنية» برئاسة سعد الحريري، المشكلة عام 2009 بعد اتفاق الدوحة، واتخذ هذه المرة قضية من سماهم «شهود الزور» في المحكمة الدولية ذريعةً لإسقاطها. وهكذا كان، إذ قدم وزراء الحزب وحلفاؤه ووزير شيعي كان يعتبر محايدًا استقالاتهم الجماعية فسقطت الحكومة.


هنا لا بد من الإشارة إلى أن حزب الله كان احتفظ وحده دون سائر الأحزاب والميليشيات اللبنانية بسلاحه بحجة «مقاومته» الاحتلال الإسرائيلي. لكنه احتفظ بسلاحه حتى بعد انسحاب إسرائيل عام 2000، وهذه المرة بحجة أن الانسحاب لم يكن كاملاً لكون مزارع شبعا وتلال كفرشوبا «تحت الاحتلال».


وبعدها أبقى على سلاحه، أيضا باسم «المقاومة»، رغم قبوله بالقرار الدولي 1701 الذي أنهى حرب 2006، والذي نص على حظر وجوده العسكري جنوب نهر الليطاني، وهو ما يلغي إمكانية قتاله إسرائيل.
مع هذا ظل الحزب يزعم أن سلاحه «سلاح مقاومة» ضد إسرائيل، حتى بعدما استخدمه داخل بيروت والجبل ضد شركائه في الوطن. ثم، بناءً على أوامر طهران، داخل أراضي سوريا دعمًا للنظام وضد الشعب في أعقاب عجز نظام بشار الأسد عن القضاء على ثورة الشعب السوري على حكمه.


في وضع كهذا لا يختلف احتلال ميليشيات بشار الأسد وقاسم سليماني سوريا كثيرًا عن احتلال ميليشيات حزب الله لبنان.


وفي الحالتين لا يقوم قضاء ولا تحقَّق عدالة ولا ينصَف مظلوم ولا يعاقَب مجرم.