عرفان نظام الدين

مهما قيل عن «عاصفة الحزم» التي أعلنتها دول التحالف العربي، بقيادة السعودية، لإعادة الشرعية إلى اليمن، ومهما تردد من آراء ومواقف، فإن التاريخ لا بد أن ينصف من أقدم على خوض غمارها بعد انحسار غبارها، لكنه يسجل منذ الآن أنها شكلت نقلة تاريخية تعيد التوازن إلى الأمن القومي العربي وترسم خطوطاً حمراً أمام كل من تسوّل له نفسه أن يستغل أوضاع الأمة العربية المؤسفة لفرض هيمنته ووضع اليد عليها، وكأنها تحولت إلى «الرجل المريض» الذي يحيط به أصحاب الغايات لاقتسام تركته.

&

والتقييم الأولي للعملية يستخلص حقائق أساسية ومهمة من بينها:

&

* إنقاذ اليمن من مصير مأسوي، بدايته حرب أهلية طاحنة تدمر البشر والحجر وتدوم لسنوات طويلة. وفي حال توجه الأطراف نحو الحوار البناء، فإن هذا الإنقاذ سيترجم بإعادة الوحدة الوطنية ومنع التقسيم والقضاء على «القاعدة» والمتطرفين الذين حاولوا استغلال الفوضى للتمدد.

&

* حسر الأخطار عن السعودية ودول الخليج، وتحصين أمنها القومي بعدما وصلت إلى أبوابها الخارجية وكادت أن تدخل إلى عقر دارها لتهدد استقرارها.

&

* إعادة إحياء الأمن القومي العربي بعد سنوات من الغياب والانحسار، والتأكيد للقاصي والداني أن العرب لهم قدرات لا يمكن الاستهانة بها، وأنهم لن يكونوا لقمة سائغة لكل طامع ومغامر.

&

وبات واضحاً أن قرار شن «عاصفة الحزم» لم يتخذ إلا بعد نفاد الصبر وبذل الجهود المضنية وطرح المبادرات لإنهاء التمرد وإخراج اليمن من النفق المظلم الذي أدخلته فيه جماعة الحوثي والرئيس المخلوع علي عبدالله صالح ومن يدعمهم في الخارج، وإيران على وجه التحديد. لكن كل المحاولات قوبلت بالرفض والصد، وفق حسابات خاطئة ظن فيها هؤلاء أن النصر حليفهم وأن اليمن صار على قاب قوسين أو أدنى من الاستسلام والسقوط في هاوية الصراع الإقليمي والدولي ليتحول بعدها إلى «حصان طروادة « يهدد أمن السعودية والخليج وكل العرب ويحيي آمال إحياء الامبراطورية الفارسية.

&

وعلى رغم تأخر العملية الإنقاذية بسبب الرغبة في الحل السلمي، فإن أي تأخير أكبر كان يمكن أن يؤدي إلى كارثة، ولهذا اتخذ القرار في الوقت المناسب وبالحسم المطلوبين من أجل حماية مقدرات الشعب اليمني ومنع إدخاله في أتون صراعات ومطامع. ولا يمكن إنكار آلام العملية الجراحية، لكن الهدف الذي جرى تأكيده هو تلبية نداء الشرعية لإنقاذ الشعب اليمني وحماية الأمن القومي، كما أكد الملك سلمان بن عبدالعزيز في رسالته إلى القوات المسلحة، ومن ثم ما ركز عليه الشيخ محمد بن زايد، ولي عهد أبو ظبي، من أن الهدف الأساس هو إعادة الشرعية وتأمين استقرار اليمن وحماية الأمن العربي والتصدي لمختلف التهديدات لأن الأمن العربي كلٌ لا يتجزأ، كما خرجت به القمة العربية وما شدد عليه الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي.

&

هذه الإيضاحات والتأكيدات قوبلت بالترحيب على امتداد الوطن العربي بعد تبيان الحقائق وكشف المستور عن الأخطار التي كانت ستهدد الأمة، لولا العزم والحسم. وهذا ينطبق أيضاً على إعلان انتهاء «عاصفة الحزم» وبدء عملية «إعادة الأمل»، وهو ما يحتاجه كل عربي، والمواطن اليمني خصوصاً، بعدما عانى من نار التعصب والرعب والضياع خلال السنوات الماضية، ما ضاعف من حجم الفقر والبطالة والحرمان نتيجة التمرد وسياسات الرئيس المخلوع وفساد نظامه.

&

وبعد زوال القلق، ساد الاطمئنان لوجود إرادة عربية وقرارات حاسمة من أجل إعادة التوازن والاستقرار إلى المنطقة وبناء القوة القادرة على حماية الأمن القومي كهدف استراتيجي مصيري. فقد كاد العرب يفقدون الثقة بإمكاناتهم ويعيشون سنوات من القلق نتيجة وصول معظم الدول العربية إلى ما يشبه حال الغيبوبة أو ما يسمّى بلغة الطب «الموت السريري»، فيما انقسمت الشعوب إلى ثلاثة اتجاهات: الأول، مستسلم للواقع المزري، والثاني مشارك في صنعه، والثالث يبحث عن مخرج لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وترميم الأوضاع ورأب الصدع.

&

ومرت السنوات الخمس المنصرمة ثقيلة على عقول العرب وكرامتهم، وسط إحساسهم بأنهم يفقدون أوراق الحسم والقرار، الواحدة تلو الأخرى، لمصلحة القوى الإقليمية الساعية إلى الهيمنة، والقوى الأجنبية الطامعة باستعادة نفوذها والسيطرة على مقاليد العرب وثرواتهم. وزاد الطين بلة ما شهدناه من ضربات موجعة توجه إليهم من كل حدب وصوب: إسرائيل تعربد وتعتدي وتقصف وتقتل وتهوّد ما تبقى من فلسطين المحتلة. وإيران توسع نفوذها وتتسلل إلى الدول العربية، الواحدة تلو الأخرى، وتفاخر بأنها أعادت أمجاد الامبراطورية الفارسية التي تمتد من طهران إلى بغداد، إلى بيروت ودمشق وغزة، وصولاً الى صنعاء. فيما تركيا تحلم هي الأخرى بأوهام إحياء الخلافة العثمانية، وتقيم تحالفاتها وتتدخل في كل شاردة وواردة من العراق إلى سورية، وصولاً إلى مصر وليبيا. أما الدول الكبرى، فقد استعادت ذكريات عهود القناصل والمفوض السامي لتتغلغل مجدداً في المنطقة وتتدخل في الشؤون العربية على المكشوف أو «على عينك يا عربي»، وتدخل في «بازار» رخيص للتنافس على مناطق النفوذ، وكأننا بتنا نقف على مشارف «يالطا جديدة» يتحول فيها العرب إلى أمة الكرام على مائدة اللئام.

&

ومع الأيام كادت الأكثرية تستسلم للواقع وكأن الأمر قد قضي وأعلن العالم «وفاة العرب»، وفق تعبير الراحل الكبير نزار قباني، خصوصاً خلال سنوات الجمر في مصر والمخاوف من انهيار بنيانها نتيجة الحوادث المتتالية، لأن مصر هي صِمَام الأمان، وبيضة القبان في الميزان العربي. وتكرَّست المخاوف عندما قام حكم «الأخوان المسلمين»، وبدأت عملية اقتسام الغنائم بين الولايات المتحدة التي دعمته من تحت الطاولة، وتركيا التي ما زالت ترفض الاعتراف بزواله، وإسرائيل تعربد وكأن الساحة قد خلت لها، وإيران توسع نفوذها وتعيش أوهام الامبراطورية.

&

وبحركة تشبه الأعجوبة، هبّت رياح الحزم والحسم من القاهرة أولاً، ثم من الرياض، وكأن طائر الفينيق العربي قام من تحت الرماد بعد ثورة ٣٠ حزيران (يونيو) 2013 ونهوض الجيش المصري بقيادة الفريق عبدالفتاح السيسي لإنقاذ مصر واستعادة قرار السيادة، وفق خريطة طريق مدعومة من السعودية ودول الخليج.

&

وهكذا وضعت اللبنة الأولى في مسيرة إعادة الروح إلى الأمن العربي وصيانة المصالح العربية، ثم توالت الخطوات إلى أن توجت بالخطوة التاريخية «عاصفة الحزم» التي أوقفت الانهيار ورممت الجدار العربي وتصدت لمؤامرة التقسيم والتفتيت التي سمعنا آخر فصولها من واشنطن عن تقسيم العراق إلى ٣ كيانات، سنّي وشيعي وكردي.

&

وانكشفت الحقائق بعد جلاء الكثير من الأسرار عن مدى التغلغل الإيراني في اليمن والدعم الكبير لجماعة الحوثي على كل المستويات، من تدريب وتمويل وتسليح وإعداد خطط للسيطرة على صنعاء والمدن الأخرى تمهيداً للاستيلاء على السلطة بعد التحالف مع عدو الأمس، الرئيس المخلوع صالح، من أجل تهديد أمن السعودية ومحاصرتها مع دول الخليج والهيمنة على طريق النفط من مضيق هرمز إلى بحر العرب، وصولاً إلى باب المندب والبحر الأحمر لإقامة فك الكماشة نتيجة التغلغل في الجناح العربي الآخر، من العراق إلى البحر الأبيض المتوسط.

&

من هنا، تكمن أهمية القرار السعودي وتوقيته، خصوصاً بعد إعلان تقرير الأمم المتحدة الذي يؤكد هذه الوقائع حول تفاصيل التغلغل الإيراني خلال السنوات المنصرمة، إذ تبيّن أنه لم يعد هناك أي مجال لعدم اتخاذ قرار حاسم وبسرعة قبل فوات الأوان، لأن البديل كان الاستسلام للأمر الواقع ورفع الراية البيضاء على مستوى الأمة جمعاء، ليس أمام إيران وحسب، بل في وجه القوى الإقليمية والأجنبية، وصولاً إلى إسرائيل التي تتنافس على تبادل الغنائم وتتقاطع وتتقارب في خطط تقاسمها.

&

فقد كان واضحاً أن جماعة الحوثي كانت مستعجلة في حسم الأمور في سرعة قبل إتمام الاتفاق على الملف النووي الإيراني، ليشكل انتصارها ورقة ضغط في يد إيران، وسط تسريبات عن اتفاقات سرية تزامنت مع المفاوضات وما سيجري بحثه من تفاصيل تدخل في جوهرها الشياطين حول ما يُسمّى «القضايا الإقليمية».

&

لكن السؤال الكبير الذي يطرح اليوم في ظل التوتر القائم والخلافات حول «عاصفة الحزم» هو: هل أن الطريق طويل مع نشوب صراعات وحروب لا نهاية لها على المدى القريب في اليمن أولاً، ثم بين القوى العربية والإقليمية والأجنبية؟ من المؤكد أن أي عاقل لن ينصح بمثل هذا التوجه، بل لا بد من وقفة للتفكير والتروي بعد النجاح في تغيير اتجاه البوصلة وإعادة التوازن، إلى حد ما، لدرء الأخطار واستعادة الثقة في قدرات العرب.

&

فقد آن أوان الحوار اليمني - اليمني بدعم من مجلس التعاون الذي تعهد إدخال اليمن إلى النادي الخليجي، بعد طول انتظار، من أجل البحث عن صيغة إنقاذية لهذا البلد المنكوب وللمنطقة بأسرها تضع حداً للتدخلات الخارجية وتنهي حال الحرب والفوضى، على أن يلي ذلك حوار لا بد منه مع إيران وتركيا لفتح صفحة جديدة تقوم على أسس واضحة تحترم سيادة الدول وخصوصياتها وتتوقف عن التغلغل بمسميات مختلفة، مثل «تصدير الثورة»... وغيرها.

&

والأمل كبير بأن يسود هذا الاقتناع لدى جميع الأطراف الفاعلة من أجل مصالحها أولاً، والالتفات إلى البناء والتنمية ومواكبة روح العصر. وهذا لن يتحقق إلا بالتخلي عن الأطماع وأوهام التوسع، وإعادة إحياء الإمبراطوريات والخلافة.

&

لا بد من صرخة «كفى» يطلقها ملايين النساء والأطفال والرجال الذين دفعوا الأثمان الباهظة للحروب والصراعات والمطامع، بين قتيل وجريح ومعاق ومشرَّد ولاجئ، يعيشون في جحيم لا بد أن يحرق الجميع بنيرانه في حال لم تنتصر لغة العقل والحكمة والقناعة بفضيلة السلام الذي يأتي بعد الحزم والحسم بالأمل... مبشراً بنعمة الأمن.
&