طلعت رميح&


كان الدرس العراقي والأفغاني مروعا في تأثيراته على القدرات الأمريكية، أكثر مما تصور العرب، حتى يمكن القول إنه غير الرؤية الإمبراطورية للولايات المتحدة، ودفعها إلى تعامل إستراتيجي مختلف مع وجودها ودورها في قضايا الشرق الأوسط.


لقد قررت الولايات المتحدة اعتماد إستراتيجية جديدة تقوم على إبقاء قواتها بعيدة عن الخطر- إذ لم يعد بقدرتها التعرض إلى حالة استنزاف خطرة في الوقت الراهن-وقررت أن تترك أو تدفع الآخرين لعدائهم مع بعضهم البعض، استنفاذا لقدراتهم وللوصول إلى موازنة صراع القوة، دون أن لا يضر ذلك بالمصالح الأمريكية. وتقوم الرؤية الراهنة على أن تدير الولايات المتحدة ما يجري من صراعات بين الآخرين، عبر المناورات الدبلوماسية وإمدادات السلاح والأعمال الاستخبارية والقصف من الجو إن تطلب الأمر ذلك، بشرط أن يكون القصف محل إجماع وعبر تحالف وتوافقات تشمل كل الأطراف الرئيسية وإن كانت متصارعة.
تحركت الولايات المتحدة عبر مختلف الأدوات لتنسج علاقات مختلفة في الإقليم، فحولت أعداءها إلى موقع صداقتها وشراكتها ونقلت من كانوا في موقع التحالف معها إلى موقع الصداقة والشراكة، دون أن تغلق الطريق- بل ربما وسعته - ليدخل هؤلاء وأولئك في صراعات واقتتال، حتى صار المتقاتلون في موقع التعامل أو الصداقة معها، إذ هي استهدفت المحافظة على مصالحها مع كل الأطراف.
قررت الولايات المتحدة الانتقال من سياسة "الركائز المزدوجة" ومن سياسة "الاحتواء المزدوج" –كما جرى الحال بين إيران والعراق من قبل- إلى سياسة أو إستراتيجية "الأصدقاء الأعداء المزدوجة" (حسب وصف روبرت ساتلوف-المدير التنفيذي لمعهد واشنطن)، وخلالها تحول حلفاء واشنطن العرب السابقون (في الخليج) إلى مجرد أصدقاء أو شركاء يجري التعاون معهم حسب طبيعة كل ملف على حدة، كما تحول خصومها وأعداؤها السابقون (إيران) إلى أصدقاء وشركاء حسب كل ملف على حدة أيضا، فيما تؤدي هي دور الطرف القائم على فرض التوازن الحساس والدقيق بين هذه المتناقضات وتلك القوى المتصارعة بعمق، للحفاظ على مصالحها لدى كل الأطراف!
هذا هو ملخص الرؤية الإستراتيجية الأمريكية الحالية، وهذا هو جوهر إدارة أوباما لأزمة تراجع الولايات المتحدة في العالم، وهذا هو ما يفسر مواقفها من البرنامج النووي الإيراني ومن بشار الأسد وفي الحرب الجارية في العراق وبشأن عاصفة الحزم في اليمن..إلخ.
لا تنتظروا أمريكا، ولا تعولوا عليها في حل الملفات ولا في التصدي لإيران ولا في إسقاط بشار..إلخ... فالولايات المتحدة في موقع الصداقة والشراكة مع إيران، وفي موقع الصداقة والشراكة مع الخليج – حسب كل ملف على حدة -وهي تتعاطى مع كل الأزمات والصراعات والحروب لتحقيق مصالحها على حساب الجميع، بما في ذلك المعركة ضد تنظيم الدولة، إذ ترى ما يجري عملية مناسبة لتحقيق إنهاك كل الأطراف – ولذا قالت منذ البداية وبوضوح ستستمر الحرب على تنظيم الدولة عدة سنوات- وهي ترى أن وجود بشار الأسد واستمرار الاقتتال في سوريا، هو ما يحقق لها التأثير على إيران وروسيا من جهة وعلى العرب وتركيا من جهة أخرى. وهي في الحالة اليمنية لم تكن مع انطلاق العاصفة وهي تعمل الآن لأجل أن لا يجري ولوج حرب شاملة تضعها هي في موضع الخيار الحاد والحاسم، ولذا تتحدث عن المفاوضات وبلغة إنسانية وتعمل لأجل إبقاء المعركة محتجزة، وفي الأغلب هي من يقف دافعا لبعض الأطراف العربية للحديث عن ضرورة إشراك علي عبد الله صالح في حكم اليمن مجددا!
هل أدركنا أبعاد تلك السياسة أو الإستراتيجية الأمريكية؟ يبدو في الأمر بعض مهم من ذلك. وقد حمل تحرك عاصفة الحزم ملامح من التعامل الإستراتيجي مع هذا التغير، من خلال السير نحو حالة الاعتماد على الذات، كما حمل التحرك نحو صياغة ونسج تحالفات واسعة مع دول الإقليم لسد الثغرات المفتوحة التي تتسرب منها المناورات الأمريكية، ملمح آخر بالغ الأهمية، غير أن المشوار لا يزال طويلا. وقد يكون المطلوب أن نتحول نحو حركة مستقلة أخرى لحسم أسرع للمشكلات التي تفت في عضد القوة العربية وأن يجري التصدي للبعض الذي يعمل لإطالة أمد النزاعات الداخلية. وقد يكون ضروريا الضغط على إسرائيل كركيزة للولايات المتحدة في الإقليم!
&