عبدالله المدني

&تزدحم الصحف والمواقع الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي بالمقالات والتغريدات التي تثني على وزير خارجية المملكة العربية السعودية المستقيل حديثاً، صاحب السمو الملكي الأمير سعود الفيصل، وتطالبه بضرورة كتابة مذكراته عن الحقبة الطويلة والثرية التي أدار فيها دفة الدبلوماسية السعودية بكفاءة واقتدار مشهودين. والحقيقة أن مثل هذا المطلب له مسوغاته ودلالاته ومبرراته. فالرجل الذي دخل تاريخ بلاده كثالث وزير للخارجية من بعد والده ثم الشيخ إبراهيم السويل، لم يكن مجرد وزير عابر، وإنما جاء ليؤسس نهجاً ومدرسة جديدة في العمل الدبلوماسي، قائمة على الحكمة والدهاء واللباقة وسرعة البديهة والردود المختصرة المفحمة المتلازمة مع النشاط المكثف في أصقاع العالم. وهو في هذا استثمر ما تعلمه أكاديمياً في واحدة من أفضل الجامعات الأميركية (برنستون)، وما تدرب عليه في مدرسة والده السياسية العريقة.

كانت بداية ذلك ـ كما يعلم الجميع ـ وسط ظروف مفاجئة دقيقة مرت بها المملكة في أعقاب الحدث المزلزل المتمثل في اغتيال والده الراحل المغفور له الملك فيصل بن عبدالعزيز، الذي كان يحمل بنفسه حقيبة الخارجية، ويساعده في مهامها البروتوكولية المرحوم عمر السقاف.

&

&
وإذا كان من لا يصلون إلى ربع قامته لجهة المواهب والإنجازات الدبلوماسية والعلاقات المتشعبة مع قادة العالم وساسته قد كتبوا مذكراتهم الشخصية ودفعوا بها نحو المطابع، فمن باب أولى أن يفتح الأمير سعود الفيصل خزائن أسراره وينشرها في مجلدات، لأن ما لديه لن يستوعبه مجرد كتاب. كيف لا وهو الذي عاصر أربعة ملوك سعوديين في أزمنة عاصفة على المستويات المحلية والإقليمية والدولية، وكان شاهداً حياً على منعطفات وحروب وأزمات تاريخية غيرت وجه المنطقة والنظام الدولي، لعل أبرزها حروب الخليج الثلاث والحرب اللبنانية العبثية، وحروب الفلسطينيين، وانفراط عقد الاتحاد السوفييتي، وانتهاء بالحرب الباردة وبروز نظام القطب الأوحد، وتحرر العملاق الصيني من أسر الأفكار الماوية الديماغوجية، وسقوط نظام الشاه في إيران لمصلحة نظامها الثيولوجي المارق، واندلاع ما سمي باحتجاجات «الربيع العربي» وما صاحب ذلك من تغيرات، بل إن لدى الأمير الكثير مما يقوله ويكشف النقاب عنه حول حقبة الطفرة النفطية في سبعينيات القرن المنصرم حينما كان سموه يشغل منصب وكيل وزارة البترول والثروة المعدنية في بلاده المعروفة بمكانتها العالمية في أسواق النفط، وقدرتها على توجيه أسعاره صعوداً وهبوطاً.

والأمير، إنْ فعل ما يطالبه به عدد كبير من محبيه، فإنه سيسدي بذلك خدمة لا تقدر بثمن للباحثين والدارسين في علم العلاقات الدولية والدبلوماسية والاستراتيجيات الخارجية ممن يتطلعون إلى فهم أدق لكيفية صناعة القرار الخارجي وتنفيذه في المملكة بصفة خاصة، وفي منطقة الخليج بصفة عامة. وباعتباري أحد الذين درسوا العلاقات الدولية والاستراتيجيات في جامعات الغرب، وذاقوا الأمرين أثناء إعداد بحوثهم وأطروحاتهم الدراسية بسبب النقص الكبير في المراجع المنشورة بأقلام ساسة ودبلوماسيين من أقطارنا الخليجية، وبالتالي الاضطرار للاعتماد على دراسات أو مذكرات مصدرها شخصيات أجنبية بعيدة عن أجواء الحكم ودهاليز السياسة في منطقتنا، وربما كتبوا ما كتبوه اعتماداً على تخمينات وتوقعات وتصورات من وحي الخيال ـ أو في أفضل الأحوال استناداً إلى تقارير صحفية تنقصها الدقة أو تتداخل فيها الحقائق مع الأهواء الشخصية ـ أستطيع أن أقول جازماً إن مذكرات سمو الأمير عن الحقبة التي تولى فيها إدارة دفة الدبلوماسية السعودية سوف تكون خير معين وظهير للشباب المتطلع إلى دراسة العلاقات الدولية والدبلوماسية في المستقبل.

ومن المفيد هنا أن أسرد بشيء من التفصيل ما حدث لي شخصياً تأكيداً لما سبق ذكره. فخلال إعدادي لأطروحة الدكتوراه حول تأثير العامل الداخلي على رسم السياسات الخارجية، طلب مني البروفسور المشرف على الأطروحة في جامعة إكستر البريطانية أن أقدم دراسة مقارنة، شريطة أن تكون بين دولتين كبيرتين إحداهما من المنطقة التي أنتمي إليها والأخرى من جوارها الإقليمي، فوقع اختياري على المملكة العربية السعودية والهند. وعلى حين عثرت على مئات الدراسات وكتب المذكرات ذات الصلة بالهند من تأليف وزراء خارجية وسفراء وساسة هنود متقاعدين ومعظمها تتضمن وثائق وأسانيد، فإني فشلت في العثور على مؤلف وحيد في شكل مذكرات شخصية كتبها مسؤول سعودي رفيع كي استند إليه في الشق المتعلق بالمملكة، الأمر الذي أربكني وكدت أطلب معه من البروفسور المشرف تغيير ما اتفقت عليه معه، خصوصاً وأن الجامعة كانت تشترط توثيق مضامين الأطروحة بأدلة ووثائق أصلية، وليس بأدلة من وحي تقارير صحفية أو كلام مرسل.

&