فهمي هويدي

&
هذا خبر يضطر المرء لأن يقرأه أكثر من مرة لكي يستوعب مضمونه ويصدقه، ذلك أنه تحدث عن استدعاء اثنين من المستشارين للتحقيق، لمشاركتهما في مشروع قانون لمكافحة التعذيب، بدعوى أن لوائح مجلس القضاء الأعلى تمنع القضاة من الاشتغال بالسياسة. وهي المرة الأولى، فيما أحسب، التي يعتبر فيها أن مشاركة اثنين من كبار رجال القانون في إعداد مشروع قانون لأي غرض نوع من الاشتغال بالسياسة.
على الأقل فذلك ما نشرته صحيفة «المصري اليوم» أمس (السبت ٢٢ مايو). وذكرت فيه أن القاضيين سيتم استدعاؤهما أمام قاضي التحقيق لهذا الغرض يوم الثلاثاء المقبل.
لو أن ذلك حدث في بلد آخر لأشارت إليه وسائل الإعلام عندنا باعتباره من علامات تردي الأوضاع السياسية وانهيار سلطة القانون. ولا أستبعد أن يشار إليه، يوما ما، ضمن زاوية الغرائب التي تنشر تحت عنوان «صدق أو لا تصدق». لكن ذلك حدث في مصر للأسف، وقد أبرزته الصحيفة على الصفحة الأولى، وذكرت فيه أن قاضي التحقيق المكلف بالمهمة سمع أقوال الأستاذ نجاد البرعي المحامي ومسؤول المجموعة المتحدة التي شكلت فريق عمل لدراسة مشروع القانون ضم المستشارين المتهمين (عاصم عبد الجبار وهشام رءوف)، إضافة إلى أحد أساتذة الجامعات وثلاثة محامين وممثلين عن نشطاء حقوق الإنسان.
وكان ذلك المشروع من ثمار الجهد الذي بذلته المجموعة المتحدة خلال السنوات الثلاث الأخيرة لمعالجة ظاهرة التعذيب، عقدت خلالها عدة حلقات للبحث وأصدرت أربعة تقارير حول الموضوع.
وقد تم إرسال المشروع إلى رئاسة الجمهورية، مع رسالة تمنت أن يصدره الرئيس عبد الفتاح السيسي في أقرب وقت لوضع حد لتلك الظاهرة المهينة للمجتمع والمسيئة للنظام القائم.
الخبر الذي نشر أمس ذكر أن البلاغ المقدم من المجلس الأعلى للقضاء اتهم القاضيين بالعمل مع مركز حقوقي غير شرعي في إعداد مشروع القانون، وفهمت من الأستاذ نجاد البرعي أنه سئل في هذه النقطة، فكان رده أن مكتب المجموعة المتحدة له وضعه القانوني المستقر، وأنه يؤدي وظيفته منذ عام ١٩٤٣، وله سجله الضريبي وأوراقه الرسمية المعتمدة وأنشطته المعلنة، الأمر الذي لا يدع أي فرصة للتشكيك في مشروعيته.
ورغم أن التحقيق يفترض أن يستكمل هذا الأسبوع، إلا أن فتح الملف يثير عدة ملاحظات، من بينها ما يلي:
* أن مثل هذه البلاغات التي أصبحت أحد شواغل القضاء تحولت إلى ظاهرة، بمقتضاها جرى الزج بالقضاء واستخدام أحكامه في تصفية الحسابات السياسية، وقد وجدنا فئة من المحامين الجاهزين طول الوقت لتقديم البلاغات ضد أي جهة أو شخص لا ترضى عنه السلطة أو تراد معاقبته لسبب أو آخر. وذلك لم يشغل القضاء ويربكه فحسب، ولكنه أساء إليه ونال من هيبته والثقة فيه أيضا.
* أثبتت التجربة أن فكرة اشتغال القضاة بالسياسة تظل مرحبا بها إذا اشتركوا في التأييد والتهليل والتصفيق للسلطة. لكن القاضي إذا أبدى رأيا مخالفا أو متحفظا، فإن كلامه يصبح سيفا مصلتا على رقبته يهدد مستقبله وسلاحا يحارب به في رزقه. ورغم أن حياد القاضي وابتعاده عن الانخراط في اللعبة السياسية يعد جزءا من استقلاله وضمان نزاهته، إلا أن التفرقة لابد أن تكون واضحة بين إبداء الرأي في الشأن العام الذي هو حق لكل مواطن وللقاضي بطبيعة الحال، وبين الانخراط في العمل السياسي والانضمام إلى فريق دون آخر. والأول مقبول ولا غضاضة فيه، أما الثاني فهو المحظور الذي ينبغي أن يتجنبه القاضي. والفرق بين الحالتين مثل الفرق بين الانشغال بالسياسة باعتباره همًّا وطنيا، وبين الاشتغال بها من خلال الانحياز إلى جانب دون آخر الذي يمكن أن يعد تحيزا حزبيا.
* إنه لابد أن يستغرب اتهام اثنين من كبار القضاة بالاشتغال بالسياسة لمجرد أنهما اشتركا في مناقشة مشروع قانون لمكافحة التعذيب أرسل إلى رئاسة الجمهورية. وقد كان معيبا أن يذكر الخبر المنشور ما يشبه الغمز فيهما، من خلال التنويه إلى أن أحدهما، المستشار هشام رءوف، تولى منصب مساعد وزير العدل إبان حكم الرئيس الأسبق محمد مرسي، وكأنها تهمة وسبة، علما بأن الرئيس السيسي كان وزيرا للدفاع في ذلك العهد، وفي الوقت ذاته تجاهل الخبر أن الرجل له مؤلف في الموضوع مطبوع بعنوان "التعذيب جريمة ضد الإنسانية".
أما القاضي الآخر المستشار عاصم عبد الجبار نائب رئيس محكمة النقض، فقد ذكر أنه صهر المستشار أحمد مكي وزير العدل الأسبق، وكأن هذه شبهة تنتقص من قدره.
* أخيرا، فإن الموضوع برمته تفوح منه رائحة عدم البراءة، ذلك أنه كان قد نشر في السابق أن الأمر بدأ بتقرير وتحريات لجهاز الأمن الوطني، الذي يمكن أن نفهم استياءه من فكرة مكافحة التعذيب الذي صار تهمة لصيقة بدوره. وثمة همس مسموع في أوساط القضاة يتردد فيه أن نادي القضاة حين كان على رأسه المستشار أحمد الزند ـ قبل توليه حقيبة العدل ـ هو الذي حرك مسألة التحقيق مع القاضيين الكبيرين، ضمن حملته الشرسة التي شنها ضد كل دعاة استقلال القضاء، الذين كان القاضيان المذكوران من بينهم.
وكانت «جريمة» هؤلاء أنهم وقفوا ضد تدخل السلطة في توجيه القضاة، كما حدث في إشرافهم على تزوير الانتخابات.
إن اشتراك القضاة في أي جهد لوقف التعذيب عمل نبيل يستحق الحفاوة والمكافأة، ومن غير المعقول، بل من المحزن والمخزي أن يكون سببا لتوجيه الاتهام إليهم ومعاقبتهم.
وتلك فضيحة كان ينبغي أن نسترها لنعالجها، لا أن ننشرها على الملأ ليشوه بها كل ما هو قائم.
&