غسان الإمام

في الحروب الأهلية والنظامية، تغدو الجغرافيا السياسية أسيرة لعمليات الكر والفر الميدانية. وها هو السباق الدموي والهمجي بين الهجمة الشيعية الإيرانية وقوات «الفورة الداعشية» يؤدي إلى سقوط أكبر تجمع سكاني عربي (سني) في المشرق، في قبضة «داعش».


لا أحب استخدام نظرية «المؤامرة» في التحليل السياسي، لكونها ابتذلت كثيرًا في التغطية على السياسات المراوغة. لكن إذا كانت الحرب صراعًا سياسيًا بوسائل أخرى، فالتسوية السياسية لها، هي غالبًا «مؤامرة» على السكان. والحرية. والتاريخ. والثقافة. واللغة.


وهكذا، كيف يمكن تفسير انسحاب الجيش النظامي العراقي المفاجئ من الرمادي عاصمة محافظة الأنبار السنية العراقية، وانسحاب الجيش النظامي السوري المفاجئ من تدمر العاصمة الأثرية للمربع السني؟ إلا «كمؤامرة»، لرسم حدود لأنظمة ودول طائفية. ومذهبية. وعنصرية، تحل محل الحدود الاستعمارية التي رسمها الوزيران سايكس وبيكو قبل مائة سنة.


في المنطق الطائفي السائد في العصر الإيراني/ «الداعشي»، فـ«المربع السني» هو الكتلة السكانية العربية الضخمة التي تمتد جغرافيًا من وسط وشمال العراق عبر البادية السورية، لتصل إلى الساحل السوري غربًا، بما في ذلك المدن السورية التي دمر معظمها النظام المذهبي السوري. وأهلك نحو 400 ألف سوري (سني) في حرب إبادة جماعية، رغم أنه يعتبر نفسه «نظامًا قوميًا» عربيًا!
تعامل نظام الاستقلال السوري في عصره الديمقراطي والديكتاتوري، بإهمال متعمد للقبائل العربية التي تسكن البادية السورية منذ عصر ما قبل الإسلام. وكان تأخرها بمثابة لعنة عليها. فبدلاً من تطويرها، فقد أهملت تمامًا. وحرمت من الخدمات والمرافق الاجتماعية في المدن. وأوكل الأمن فيها إلى فرقة الهجانة العسكرية التابعة للجيش.


إزاء الإهمال واللامبالاة، احتضن النظامان الخليجي والأردني القبائل السورية المتواصلة تاريخيًا، بحكم القرابة والعروبة، مع شبه جزيرة العرب. فعنيا بتعليمها وتدريبها. ووصلت أجيالها المتعاقبة إلى مراكز اجتماعية مدنية وعسكرية مهمة. وأذكر أن نجل الشيخ القبلي السوري هايل السرور أصبح رئيسًا لمجلس النواب. ووزيرًا للداخلية في الأردن.


اضطهد نظاما الأسد وصدام العشائر العربية في «المربع السني». وكان «حزب العمال الكردي» الذي آوى حافظ الأسد زعيمه عبد الله أوغلان، لمجرد كونه علويًا، قد تسبب بمقتل 40 ألف كردي وتركي. ثم تخلى عنه في نهاية التسعينات، بعدما هددت تركيا باجتياح سوريا.


وكان أكراد الحزب قساة في التعامل مع عشائر «المربع السني». ووصل التوتر الذي لم يعالجه بشار، إلى صدامات دموية بينها وبين الأكراد في مدن البادية كدير الزور. والرقة. والحسكة، في مطلع القرن الجديد. وسبق للدعاة الأكراد أن حاولوا تأليب الأسر الكردية السورية التي استعربت تمامًا في دمشق. وحماه مثلاً، وتذكيرها بعنصريتها، فساهم الإخوة الأكراد في هز السلام المدني في «المربع السني». ثم انفصلوا عن الائتلاف السياسي المعارض لضيقهم بعروبته المستقرة، بعد الانتفاضة.


إخفاق النظام الشيعي العراقي الموالي لإيران، في تطبيق المساواة في الحقوق والواجبات، بين المكونات الدينية والعنصرية العراقية، بعد الاحتلال الأميركي للعراق (2003)، حال دون إقامة نظام سلمي وديمقراطي في العراق كدولة عربية موحدة وطنيًا.


سقوط الرمادي وتدمر في قبضة «داعش» ليس فقط إخفاقًا يعذب ويستنزف استراتيجية التدخل المذهبي الإيراني في المشرق العربي، إنما هو أيضًا فشل باهر للاستراتيجية الأميركية الجديدة. في غموض موقف أوباما، تجد أميركا نفسها في ازدواجية متناقضة. فهي تؤكد علاقتها الأمنية مع النظام الخليجي، في الوقت الذي تقاتل فيه «داعش» مع الميليشيات العراقية الموالية لإيران! وكانت الذريعة هي الفشل المتكرر في بناء جيش عراقي وطني يتجاوز الأحزاب المذهبية.


سخرية كبيرة بالواقع التاريخي. والديني. والمذهبي، أن تعتبر أميركا بوش وأوباما السنة العرب «أقلية عرقية». ثم تدفع هذه الميليشيات إلى «تحرير» المربع السني من سيطرة «داعش»، متجاهلة المجازر المذهبية التي ترتكبها ضد المدنيين! السخرية سوف تبلغ ذروتها، إذا ما تعهدت أميركا وأوروبا، في الاتفاق النووي مع إيران، بإطلاق سراح أموال إيران المحتجزة (120 مليار دولار) دفعة واحدة. إيران قبلت بتأجيل امتلاك القنبلة المخيفة سنوات قليلة، للحصول على هذه الأموال التي ستتولى صرفها، على تمويل مرتزقتها في لبنان. وسوريا. والعراق. واليمن، العاملين معها لتدمير الهوية العربية لهذه البلدان.


اليوم يرتسم واقع جديد في «المربع السني». واقع الميلاد العملي والميداني للدولة المذهبية البغيضة، على أنقاض المشروع القومي الذي أخفق في بناء الوحدة. ولقي الهزيمة العسكرية أمام المشروع الصهيوني الإسرائيلي.


تخلى النظام المذهبي السوري عن تدمر التي هي رمز أثري رائع للحضارة النبطية التي مهدت لقيام الدولة والحضارة العربية والإسلامية. رفضت زنوبيا ملكة تدمر هيمنة الإمبراطورية الرومانية على المشرق العربي القديم. وقاتلت دفاعًا عن استقلالها. لكن الإمبراطور ماركوس أوريليوس هزمها، بعد عناء عسكري شديد. وهدم تدمر. وأجبر زنوبيا على السير في موكب نصره في روما. ثم بقي مصيرها مجهولاً. تمامًا كما هو المصير المجهول «للمربع السني».
العلويون عرب. وهم يفاخرون بذلك. لكن نظامهم دمر وخرب العلاقة التي تربطهم بإخوانهم عرب «المربع السني». وهو اليوم يحاول الاحتفاظ بما يسميه «سوريا المفيدة». سوريا المنتجة. الخصبة. الخضراء. وعاصمتها دمشق التي سلمت إلى اليوم، من التدمير المنظم لمدن «المربع السني».


«داعش» و«النصرة» يحاكيان مشروع نتنياهو لإعلان إسرائيل دولة مذهبية يهودية، رافضة في عنصريتها إقامة الدولة الفلسطينية. «النصرة» الموالية لـ«قاعدة» ابن لادن وأيمن الظواهري، تبني دولتها المذهبية، بمساعدة تركية، في إدلب العاصمة الشمالية الغربية للمربع السني، لتجاور تركيا الدولة الدينية، والدولة المذهبية العلوية. وها هي «داعش» تكاد تسيطر على معظم «المربع السني» معلنة عن دولة الخلافة المذهبية، في غمرة صمت أوروبي. وحرج أميركي. وقلق (سني) عربي.


فرضت الدولة العربية (السنية) بعد الحرب العالمية الثانية أنظمة وكيانات استقلالية لم ترتق إلى مستوى وحدة عربية كبرى. نتيجة لذلك، فهذه الدولة تشهد الآن ميلاد دويلات مذهبية معادية لها، ومقلدة ومحاكية للدولة الإيرانية المذهبية.


هل تصمد هذه الدويلات (السنية) الجديدة في انغلاقها وتزمتها، أمام فوضى الحرية، وتحديات الانفتاح الليبرالي في عصر «ما بعد الحداثة»؟ أستطيع أن أجيب بأن أي تسوية سياسية مفروضة سلمًا أو حربًا، لن تضمن السلم المدني والاستقرار السياسي لعرب «المربع السني». وسوف تتحرك قوى الطبقة الوسطى الغائبة، للمطالبة بالحرية السياسية، ورفض التزمت الديني المفروض عليها، بعد انتهاء الترويع الوحشي للحروب الراهنة.


وحتى احتمال سقوط النظام العلوي لن يأتي بالأمن والسلام. فهذه الدويلات المذهبية المزدحمة على بساط «المربع السني» سوف تعرف صراعات وحروبًا تفوق أهوالها الصراع السياسي والدموي بين قوى المشروع القومي الذي كان يحلم ببناء دولة وحدوية تسمو فوق الغرائز المذهبية. والعنصرية.