&

&محمد آل الشيخ

&كنت على يقين لا يخالطه شك أن جيادنا الأمنية الأصيلة ستصل إلى الخلية الداعشية التي قام أحد أفرادها بتفجير نفسه في جامع بالقطيف، وقتل وجرح العشرات من السعوديين والمقيمين، لأن أجهزة الأمن، عودتنا المرة تلو الأخرى ألا وجود في سجلاتها لعملية ضد مجهول؛ فهؤلاء الوطنيون الأفذاذ يضربون المثل في كل قضية يتولونها، بأنهم سيصلون إلى كل من له علاقة بأية جريمة يحققون فيها، حتى ولو اختبأ في المريخ، بشكل إعجازي ومُبهر ويُثير كل معاني الإعجاب والاطمئنان؛ فهذه البلد مترامية الأطراف، ومتعددة المكونات والتشكيلات الاجتماعية والمذاهب الدينية، والمستهدفة من عدة جهات خارجية، لم تنعم بالأمن والطمأنينة، إلا بتوفيق من الله أولاً، ثم بسبب هؤلاء الرجال المُنظمين المحترفين، الذين يعملون ليل نهار، بأعين ساهرة لا تنام، بل وتستعصي حتى على التثاؤب، فضلا عن المثابرة والإصرار والإخلاص؛ إنهم مفخرة تتمناها كثير من الشعوب والدول، التي جعل الإرهاب أرضها خرابا، وأهلها يكتنفهم الخوف والوجل، وترتجف أفئدتهم على أمنهم واستقرارهم، ويتملكهم الشك في غد لا يضمنون كيف يكون، ولا كيف تكون طقوسه ولا أحواله وتقلباتها. أعود لهذه الجريمة النكراء، التي كشف تفاصيلها بيانُ (وزارة الداخلية) الأخير، فلم يمض على تنفيذها، أكثر من 36 ساعة إلا وجاءت (جهينة بالخبر اليقين) ! المفزع أن المجرم المنتحر ومن شاركه في جريمته صغار أغرار في العقود الأول من أعمارهم، بل ومنهم مازال يُعتبر في مرحلة الطفولة، استطاع دواعش الخارج أن ينفذوا إليهم، وإلى تشكيل أفكارهم، ويجعلون منها عجينة طيعة، يشكلونها كما يشاؤون، مستغلين حماس الشباب واندفاعهم، وعدم قدرتهم على قراءة ما يمكن أن تؤل إليه مثل هذه الجريمة الفظيعة البشعة على دينه ودنياه، فضلا عن جهلهم المطبق بالدين الحنيف وأخلاقيات الاختلاف.

إننا نحتاج فعلا وبشكل عاجل إلى تأسيس (منشأة بحوث اجتماعية) متخصصة بالمستوى والمهنية والإتقان التي ترقى إلى مهنية وتمكُّن وقدرات (جهاز المباحث) تواكب التحديات، وتتعامل معها بشكل علمي وبحثي محترف، وتتلمس الحلول، وتحدد الانحرافات، وتضعها أمام صناع القرار في أعلى الهرم..

فالقضية على ما يبدو محض (تربوية)، وسلوكية؛ أي أنها قضية تنشئة اجتماعية، لا تتوقف عند الأب والأم داخل البيت وأسرة الفرد، وإنما تمتد ليس إلى خارج البيت وداخل البلاد فقط، وإنما إلى خارج البلاد أيضا..

لذلك فمثل هذه الظاهرة الخطرة لا بد وأن يتولى التعامل معها، ويتصدى لها ثقافيا واجتماعيا، مختصون تربويون واجتماعيون محترفون وأطباء نفسيون ومتخصصون في علم الأنسنة - (الأنثروبولوجيا) - إضافة إلى فقهاء دينيين متفتحين على ما استجد على الدين من مستجدات فكرية وسياسية وما اختلط به من مفاهيم؛ بحيث تتكون منهم هذه المنشأة البحثية، بحيث تكون مخرجاتها ومنجزاتها، بمستوى وقدرة وتمكن واحترافية الجهات الأمنية؛ لتكون المعلومة والحقائق التي تتوصل إليها الجهات الأمنية، بمثابة المادة الخام لبحوث العاملين في هذه المنشأة؛ وبناء على ما تتوصل إليه من نتائج وما تشير إليه من توصيات، يكون بمقدورنا علاج مثل هذه الظاهرة علاجا دقيقا وصحيحا نسبيا؛ ولا أقول علاجا اجتثاثيا (آنيا)، وإنما - على الأقل - محاصرتها، والتضييق عليها، وتجفيف بواعثها وأسبابها، على أمل أن نصل في الأمد المتوسط والبعيد إلى حصرها في أضيق نطاق وعلاجها مستقبلا؛ فليس لمثل هذه الظواهر علاجا سريعا للأسف، كما لا يكون دائما الردع بالعقاب، هو الحل، وإنما الردع والعقاب، هو فقط إجراء سريع وربما آني، لكن ثمة ظواهر فكرية إنسانية، مثل قضايا الإرهاب، وبالذات حينما تكون أدواته الأطفال والمراهقين، كهذه الحادثة، وربما النساء مستقبلا، تتشابك فيها وفي دوافعها، الديني، بالنفسي، بالاجتماعي، بالبيئة التي نشأ فيها الفرد، وكذلك بمستوى نضوجه العقلي والثقافي والعلمي والعملي؛ لذلك لن يكفي العقاب وتغليظه قطعا؛ فالمنتحر حينما يسعى بقدميه إلى تفجير نفسه بنفسه، فلن يردعه أي عقاب مهما كانت درجة غلظته.

الأمر الآخر، الذي لا بد من الإشارة إليه هنا بصراحة ومباشرة ودون مواربة، أن هذا المستوى الشاهق مهنيا الذي وصلت إليه الدوائر الأمنية في بلادنا، لا ترقى إليه - للأسف - إنجازات الجهات الحكومية الأخرى التي يُفترض أن يكون لها مساهمات جوهرية في إسناد جهود وزارة الداخلية؛ فالمجتمع اليوم أصبح يختلف عن مجتمع الأمس، وكيف تتشكل أذهان أفراده، فالمجتمعات اليوم أصبحت مفتوحة على الفضاء بلا أي سقف أو محددات؛ فالأفراد تتلقى ثقافتها ومعرفتها، وتبني قناعاتها، ليس من داخل المجتمع وثقافاته الموروثة أو المعاصرة فحسب، وإنما من سماء لا يمكن إغلاقها، ولا التحكم في ما يهطل عليك وعلى أبنائك منها، فجعلت مما كان مستحيلا ممكنا، ومن البعيد قريبا، ومن المعلومة أيا كانت طوع بنانك، فتتلقاها وأنت لا تدري عن حقيقتها ولا عن استقامة محتواها؛ فالمعلومات التي تصل اليوم إلى المراهق أو المراهقة مثلا، هي التحدي الأول، الذي يحب أن نتلمس له حلولا، وكيف تحصن المجتمع من تأثيراتها السلبية ما استطعت.

أعرف أن علاج هذه الظاهرة الخطرة، والمتفاقمة، وبهذه الطريقة، يحتاج ربما إلى عقود، وجهود حثيثة، وعمل دؤوب لا يمل ولا يكل، إلا أن الحقيقة التي وضعتها هذه الجريمة أمامنا، ومنهم مقترفوها، والمشاركين فيها، وبالذات صغر سنهم، وتواضع تجربتهم الحياتية، ليس لها حلا ناجعا إلا مثل هذه الحلول؛ لذلك يجب أن نبادر إلى إنشاء هذه المنشأة التي تحدثت عنها هنا، ونصرف عليها بسخاء، لأن دعم مركز البحوث له علاقة بمخرجاتها النهائية، وبشكل عاجل، فهي ستكون بمثابة خط الدفاع الاستباقي لحماية وطننا وأمنه واستقراره.
&