زياد الدريس

حين اشتعلت «عاصفة الحزم»، كتبتُ كما كتب غيري، ما يمكن وصفها بأنها «تغريدات حربية» تستبشر بمفعول العاصفة وتحتفي بقائدها وبجنودها البواسل.

&

كتب أحدهم منتقداً تغريداتي تلك قائلاً، بمنتهى اللطف: «عرفناك مثقفاً، ولستَ من هواة الحروب».

&

فاجأني بتعليقه وأنا في حمأة القتال الكتابي، لكن لم يفاجئني بموقفه فلم أكن من الطوباوية كي أظن بأن الجميع سيكونون مع الحرب، مؤيدين لتحرك العاصفة المنتظرة منذ زمن عند آخرين!

&

رددت عليه من فوري بالقول: «أنا كما عهدتني يا عزيزي، لست من هواة الحروب حقاً، لكني أيضاً لست من هواة الهزائم حين يطرق أو يخلع المعتدي باب بيتي أو وطني».

&

لطالما بقي موقف المثقف من الحرب مثار جدل منذ أمد طويل، باعتبار أن دور المثقف المبدئي يرتكز دوماً وتلقائياً في صنع السلام والجمال في المجتمعات. هذا عند عموم المثقفين، غير غافلين عن أن بعض المثقفين قد تحالفوا مع سياسيين انتهازيين ومع تجار حروب لإشعال حروب عبثية لا طائل من ورائها سوى منافع الثالوث المتآمر على أمن الناس وطمأنينتهم.

&

لكن هل يجب، لكي يكون المثقف مثقفاً ويحتفظ بخصلته الإنسانية التي خوّلته هذا اللقب النخبوي الرفيع، أن يكون دوماً ضد الحرب أيّاً كان هدفها وكانت مسوغاتها؟

&

المثقف ضد الحرب كموقف مبدئي، نعم، لكننا ندرك الفرق بين الموقف المبدئي والموقف المستديم الذي لا يأبه بأي ظروف وتحولات والتزامات طارئة ومؤلمة تتطلب التغاضي عن الموقف المبدئي بسبب ظرف معاكس مليء بملابسات مبدئية أكثر وجاهة من الموقف المضاد.

&

يجب أن يظل المثقف ضد الحرب مبدئياً، لكن استثنائياً يجب أيضاً أن يكون مع الحرب إذا كانت ستحقق المبدأ الذي يطارده المثقفون، وهو الإسهام في صنع السلام والجمال للمجتمع. يصدق هذا الموقف الثقافي المؤيد للحرب خصوصاً حين تكون الحرب حرباً مضادة لا حرباً مُبادِئة.

&

في مثل هذه الحالة الأخلاقية الضاغطة سيتحول عمل المثقف مرحلياً إلى ما دوّنه الكاتب الفرنسي رومان رولان باسم المثقفين بقوله: «لا يمكننا وقف الحرب، بل دورنا أن نجعلها أقل مرارة». هنا سيتكشّف بوضوح أكثر الفارق بين المثقف والإعلامي!

&

عندما تشتعل الحرب في البيوت والأوطان المجاورة، وتوشك أن تشتعل في وطنك وبيتك، يصبح من العبث استمرار المثقف جاثماً في عالمه المثالي كأن الأمر لا يعنيه والوطن المستهدف لا يشغله والبيت المهدد لا يقلقه، «إذ من واجب المثقف في بعض المواقف التاريخية الحاسمة أن يكون قومياً، وذلك عنوان التزامه الإنساني». كما أعلن إدوارد سعيد يوماً ما.

&

الوقوف على الحياد من حرب عدوانية هو وقوف مع الظلم والظلام وليس مع السلام. هذا الإعلان لا يبرر تسويغ الخطاب الجاهلي: «ألا لا يجهلن أحدٌ علينا، فنجهل فوق جهل الجاهلينا»، لكنه يكرس مبدأً ثقافياً أصيلاً ضد العدوان والظلم العام، الذي لا تجدي معه فضيلة التسامح التي تسوغ في المظالم الفردية المحدودة، لا المهددة لأمن الناس الكلي.

&

يوجز هذا الموقف بكل متانة ووضوح الكاتب الإيطالي أمبرتو إيكو، في كتابه الحربي «دروس في الأخلاق»، بالقول: «إن الخطاب حول لا جدوى الحرب صعب ... لأنه يدفع إلى الاعتقاد أن صاحبه ينحاز إلى الظلم الذي تحاول الحرب الوقاية منه!».

&

المثقف الصادق ليس ضد الحرب دوماً، لكنه ضد العدوان دوماً .. هنا يكمن المثقف.
&