عبد المنعم سعيد

كنا جماعة من الباحثين القادمين من مراكز البحوث الاستراتيجية في الولايات المتحدة والشرق الأوسط، الذين عقدوا حلقة نقاشية عن «محاربة الإرهاب Counter Terrorism» أو للاختصار في الكلام CT، كما اعتاد الأميركيون وأهل الغرب. جرت الحلقة عبر شبكة الإنترنت من عواصم ومدن مختلفة، وبدا الأمر كما لو كنا في قاعة اجتماعات واحدة نتبادل الرأي ووجهات النظر فيما آلت إليه الأحوال في الشرق الأوسط. كانت الأسئلة مجهزة مسبقا عن دوافع الإرهابيين للإرهاب؛ وعما إذا كانت وسائل مقاومة الإرهاب ناجعة أم لا، خاصة استخدام الطائرات من دون طيار، وهل أدت إلى النصر ضد «داعش» و«القاعدة» أم أن إصابة مدنيين في كل غارة قد أدت إلى الإحباط والغضب ومن ثم زاد عدد الإرهابيين بدلا من النقصان؟ وكانت هناك أسئلة أخرى تعلقت بتركيا التي رغم أنها عضو في حلف الأطلنطي، فإنها لا تعرف رأسها من قدمها في الحرب ضد الإرهاب، طالما أنها لم تحسم رأيها بعد في تحديد العدو وهل هو «داعش» أم نظام بشار الأسد؟ وأخرى كانت عن الإصلاح الأمني ومعضلة أن إصلاح قوى الأمن قد يؤدي إلى قوتها، ومن ثم قيامها هي ذاتها بإرهاب المواطنين في بلاد لا يوجد فيها ما يكفي لاحترام حقوق الإنسان. أو هكذا كانت الأسئلة.


كان لدى الأميركيين إجابات جاهزة لكل الأسئلة، فما يدفع الإرهابيين إلى الإرهاب «أسباب جذرية» محلية تعود للديكتاتورية من ناحية، وضعف إنجاز الحكومات القائمة من ناحية أخرى وزيادة أعداد الشباب من ناحية ثالثة. ونتيجة احتمال إصابة المدنيين، فربما يجب تقييد أو إلغاء هجمات الطيارات من دون طيار حتى لا يغضب أحد أو يصاب بالإحباط. أما تركيا والحال هكذا فإن الاستمرار في الحرب ضد الإرهابيين سوف يكون صعبا؛ خاصة أن إصلاح الأمن ربما يؤدي إلى زيادة عدد الإرهابيين. ومن ناحيتي بدا الأمر كله وكأنه تبرير للإرهاب، ولوم للضحية لأن الجاني قتلها، وظهر أن هناك اتجاها للاختباء وراء تركيا وما تفعله أو لا تفعله وكأنه لا توجد أطراف أخرى في المنطقة تخوض حربا ضروسا مع عدو شرس. أما إصلاح الأمن فلم يكن فيه إلا تقليم أظافر الذين يموتون وهم يحاربون الإرهاب.


على طريقة الأكاديميين كان النقاش حادا بين من هم في المنطقة، ومن هم في واشنطن؛ وحتى تهدأ النفوس طرحت وجهة النظر التالية: ماذا لو أن اجتماعا كهذا انعقد في الموصل التي تشكل عاصمة لـ«داعش»؟! فماذا سوف يكون القول؟ المؤكد أنه لن تكون هناك بادرة تردد أو رخاوة، فالسعي إلى النصر والفوز سوف يكون هو الهدف الذي لا يوجد غيره، والذي يعني الاستيلاء على مزيد من الأرض، والسيطرة على عدد أكبر من السكان، واستعباد القدر الأكبر من البشر، خاصة من جنس النساء ليكونوا سبايا وجواري. ومن أجل تحقيق الهدف سوف تكون إدارة العلاقات مع الحلفاء الذين هم كافة التنظيمات التي أعلنت ولاءها لـ«الخلافة»؛ وكذلك سوف تكون إدارة المواجهة مع العدو أو الأعداء، فإذا كان هناك فوز في كوباني يكون له مقابل في القلمون أو دير الزور، وإذا كانت هناك هزيمة في تكريت يكون هناك نصر في الرمادي. وهكذا أمر ربما كان هو معضلة الحرب ضد الإرهاب كلها. بصراحة إن جماعات الإرهاب تعرف ماذا تريد، ولا يضيرها ذبح أو خسائر هنا أو هناك، وحقوق الإنسان ليست أبدا على المحك، أو حتى لها أي نوع من الأهمية، وعلى الطريق تتعامل مع العدو والصديق؛ العدو بالذبح والصديق بالخضوع. ولكن أخطر الأوراق التي يبحثها اجتماع الموصل أو الرقة أو حيث تكون القيادة الإرهابية لـ«الخلافة الإسلامية» المزعومة فهي كيف يمكن استخدام الفتنة الطائفية في الصراع الدائر بحيث تضمن لها النصر المبين. أو هكذا يعتقد أنصار داعش وحلفاؤهم. وليس سرا على أحد أن هناك قضايا تاريخية لأقليات وجماعات إثنية تعيش في بحر الأغلبية العربية السنية، ومن ثم فإن السلاح الأعظم في يد الجماعات الإرهابية، هو تعريف قضية الصراع الدائر على أنه صدام بين السنة والشيعة، ومن ثم وجب تعميق كل الحساسيات والفتن بحيث يخرج «داعش» وأنصاره منتصرا ممثلا كمدافع شرس عن السنة الذين يتآمر عليهم الجميع.


وهكذا دارت في الحقيقة الأمور خلال الأسابيع الماضية، ونجح «داعش» رغم الضربات الجوية الأميركية في الاستيلاء على الرمادي عاصمة محافظة الأنبار. وفي سوريا استولى على قاعدة عسكرية لبشار الأسد في دير الزور، ووصل رغم كل الاحتجاجات والمخاوف الدولية إلى «تدمر» أو «بالميرا»، وتوغل في حمص وحماه، ووصل إلى القنيطرة حيث خطوط التماس مع إسرائيل. هنا وفورا يكتسب «داعش» ورقة إضافية وهي القدرة على إشعال صراع استخدمه ساسة للحصول على شعبية الدفاع عن الفلسطينيين. السيناريو مخيف ويؤذن بانفجار آخر في المنطقة يغطي على جوهر الصراع الدائر والذي هو في حقيقته صراع بين الدولة العربية وجماعة «الخوارج» في طبعتها أو طبعاتها الجديدة في القرن الواحد والعشرين وليس بين السنة والشيعة. إن أعظم الكوارث التي حلت كانت أن تتداعى الأحداث في العراق إلى الدرجة التي تجعل «داعش» ممثلا للسنة في العراق، وهم الذين يسعون إلى استعباد العراقيين.


والإشكالية أنني لست واثقا أن الأطراف المقابلة، وفي المقدمة منها الولايات المتحدة، تعرف ماذا تريد، ولا ماذا تفعل؟ ولا يوجد ما يشير إلى وجود آلية مستقرة للتشاور الاستراتيجي بين أطراف التحالفات الدولية أو الإقليمية. لقد سبق أن أشرنا في هذا المكان إلى ضرورات «الاستراتيجية العليا» للفهم والتعامل مع الحرب، والآن الحروب، الدائرة. ولكن ما جرى هو أن المعركة الكبرى أصبحت معارك متنوعة، وبدأت عمليات اللوم المتبادل عن مسؤولية سقوط الرمادي أو التراجع أمام «داعش» في الحرب الأهلية السورية. وكان دخول إيران، الذي هو لأسباب لها علاقة بالجغرافيا السياسية أكثر من تلك المذهبية، إلى الساحة الإقليمية من خلال حزب الله والحوثيين والحشد الشعبي، سببا في اختلاط الأوراق. وبالتأكيد فإن الاتجاه نحو عقد الاتفاق النووي بين إيران والغرب أصبح كمن يلقي بالزيت على حطب مشتعل ليس لأنه يقيد القدرات النووية الإيرانية، وإنما لأنه يطلق العنان للخيال الإيراني حول دور إيران في المنطقة. الأمر كله يحتاج إلى تفكير عميق ونظرة استراتيجية شاملة وذات طبيعة عملياتية فعالة؟!