يوسف بن عبد العزيز أبا الخيل


كيف يمكن لفلسفة التاريخ الهيجلية منها على وجه الخصوص أن تُقَيِّم تطور الصراع السني الشيعي الذي وصل إلى حد تفجير المساجد وهي تغص بالمصلين؟ هل يمكن النظر إلى هذه التطورات الخطيرة على أنها إيذان بحروب مذهبية لا تبقي ولا تذر؟ وإذا كانت كذلك، فهل هي علامة على انحدار وتقهقر قيمي سيقضي على ما تبقى من قيم الخير والعدل؟ ومن ناحية أخرى، ألا يوجد بين ثنايا هذه الأحداث الدامية ومضة تفاؤل تقود إلى الزعم بأن هذا الشر وسيلة إلى خير مستقبلي؟

هذه الأسئلة وغيرها حاول الفيلسوف المثالي الألماني،(هيجل، توفي عام 1831م)، أن يجيب عنها ضمن منظور فلسفته للتاريخ، والتي ترى أنه لا يمكن تقييم أحداث التاريخ انطلاقاً من الأحداث الظاهرة على سطحه، وإنما من خلال الحفر الأركيولوجي في الطبقات السحيقة منه، والتي توحي لنا بأن التاريخ الكوني يسير نحو غاية سامية هي، كما يسميها هيجل، "الروح المطلق، أو الوعي بالذات، أو الحرية العامة، من خلال دولة الحق والقانون"، ذلك أن العقل يحكم العالم ويتجسد في التاريخ. لكن مشكلة التاريخ العويصة التي لا يفهمها إلا الرواد والأفذاذ من مثل هيجل، تكمن في أنه لا يصل إلى هدفه الكوني إلا من خلال أسوأ محطاته، وأكثرها تلبساً بالشر والدماء والدموع والفواجع الإنسانية، وهذا ما يسميه هيجل ب"العامل السلبي في التاريخ".

&

&

&

سيُضطر السنة والشيعة إلى المرور ب«جنون التاريخ» المضمخ بالإحن والعصبيات والقتل على الهوية المذهبية، لكي يكتشفوا، كما اكتشف أقرانهم في الغرب، أنهم كانوا يصارعون طواحين الهواء منذ ما ينيف على ألف سنة

&

&

إذاً، يمكن القول، انطلاقاً من فلسلفة التاريخ الهيجلية، إنه لا يمكن تجاوز الحاضر الشيعي/السني المُسَيَّر من قبل تراث طائفي، صيغ وفق براغماتية سياسية ماضية، إلا بعد معارك شرسة مع الماضي. لا يمكن تفكيك تراث ماضوي يهمين على الحاضر، فيجعل الشيعة والسنة يقتل بعضهم بعضاً حتى داخل دور العبادة، بمجرد الوعظ والتذكير بمساوئ الطائفية والتناحر المذهبي.

تجاوز هذه المرحلة، يتطلب، وفقاً للهيجيلة، المرور العملي بها، والاكتواء بنارها، وتذوق حميمها وجحيمها، وبمعنى أشمل: الالتقاء بالجحيم الطائفي وجها لوجه، حيث تثوير التراث، وتنفيذ ما فيه من وصايا ومقولات عنف على أرض الواقع. عند ذلك فقط يمكن تجاوز الماضي وتصحيح الحاضر وصولاً إلى مستقبل أفضل. الاشتباك مع التراث العقدي السياسي، وتذوق ما فيه من جحيم، هو وحده الذي يمكن أن يفتح العيون على مآسيه، ويمهد لتجاوزه.

التاريخ وفقاً لهيجل، لا يتقدم باتجاه الروح المطلق، أو الوعي بالذات، أو الحرية العامة الشاملة، وكلها أسماء لمسمى واحد، إلا عبر أسوأ محطاته، وأكثرها رعباً ودموية وطغياناً واستبداداً. هكذا يسير التاريخ، وهكذا يرسم مشهد مسيره نحو الروح المطلق.

يجب، لكي يتجاوز المسلمون الحاضر الممتد في الماضي، أن يتحرروا من عقد الماضي المذهبي ورواسبه التاريخية. ولن يتم ذلك بالتبشير النظري بفضائل التسامح، والدعوة إلى قبول التعددية، ورسم مشهد نظري أخاذ لمدنية مدعاة، وإنما يتم بتسليط أضواء النقد التاريخي على تراث مذهبي، كان في بدايته عبارة عن تنافس سياسي، على طريقة الأحزاب السياسية، ثم تحول، على أيدي الفاعلين الاجتماعيين للحزب الذي خسر المعركة الحربية، إلى تراث عقدي أدخل فيه من الدين والعقيدة ما لا يمت له بصلة، ثم جاراه الحزب المنتصر بأن حول أدواته النظرية التي كان يستعين بها ضد خصمه إلى مقولات عقدية هي الأخرى. هكذا تتفتح أعين جماهير الطائفتين على ما ظل محتفظاً به، ومحجوباً عن الأنظار طوال ما يزيد على ألف سنة من الصراع المذهبي بينهما.

ينقل الدكتور(هاشم صالح) في كتابه(الانتفاضات العربية على ضوء فلسفة التاريخ) على لسان هيجل كلاماً على طريقة المحاكاة فيقول:" اعلموا أنه توجد عقلانية عميقة تحكم العالم، وتشكل لحمته الخفية. وبالتالي، لا ينبغي أن يغشكم المظهر الفوضوي والكارثي للعالم العربي حالياً، فوراء الأكمة ما وراءها، وتحت الأشياء ما تحتها. ولا تخشوا الصراعات الطائفية ولا حتى الحروب الأهلية. ذلك أن معارك البشر وتطاحنهم ليست إلا المواد الخام، أو المواد الأولية التي يستخدمها العقل لكي يتوصل إلى مبتغاه في نهاية المطاف، أي حرية البشر وسعادتهم على الأرض. لا شيء عظيماً يحصل في التاريخ من دون صراعات البشر وأهوائهم العنيفة الهائجة. العقل يتوصل إلى مبتغاه عن طريق(اللاعقل)، أي عن طريق جنون التاريخ. البشر المنخرطون في الصراعات يعتقدون أنهم يتابعون أهدافهم الخاصة عندما ينخرطون في الممارسة السياسية ويتحمسون بكل قوة ويتفاعلون، ولكنهم يحققون أهداف العقل المتجسد في التاريخ الكوني على غير وعي منهم. إنهم وقود التاريخ السائر نحو الأمام وتجاوز العقبات".

لربما يختلف بعض فلاسفة التاريخ مع هيجل في تحليله للتاريخ الكوني بأن العقل يتجسد فيه، وصولاً إلى الروح المطلق، ومن ثم يختلفون معه أيضاً في كيفية النظرة التقييمية إلى"جنون التاريخ"، إلا أن محاولة رصد محطات سير التاريخ في الأمم التي تجاوزت محنها، يعطي مصداقية للتحليل الهيجلي لفلسفة التاريخ. بمعنى أن"جنون التاريخ" مهم جداً، بل وضروري لتجاوز هذا الجنون نفسه. لا بد من المرور بالهيجان والصراعات، والقتل على الهوية الدينية والمذهبية لكي تُتَجاوز هذه المحطات المرعبة إلى نقيضها ثم إلى مركب منها.

لنُعِد إلى الذاكرة نتفاً من قصص الصراع المذهبي بين الكاثوليك والبروتستانت في الغرب، وسنجد في تجسيد التاريخ لمحطاتها صدقاً كبيرا للتفسير الهيجلي للتاريخ. لو لم يتجسد الصراع بين ذينك الطائفتين إلى حروب مجنونة أخلت بعض المدن الأوروبية من سكانها، كما حدث مثلاً في حرب الثلاثين عاماً، والتي جرت في ما بين عامي 1618 و1648م، لما اكتشف الأوروبيون حماقة وجنون الصراعات الدينية والمذهبية، ولما توصلوا إلى هذه الأنظمة المدنية التي تدع الناس وما عقدوا عليه قلوبهم، لتكتفي بمحاسبتهم على واجباتهم السياسية والاجتماعية المنبثقة من مفهوم "المواطنة" الحديث، ولتترك ما سوى ذلك لله رب العالمين، الذي سينبئهم بما كانوا يعملون، وعلى ماذا كانوا يختلفون.

وسيُضطر السنة والشيعة إلى المرور ب"جنون التاريخ" المضمخ بالإحن والعصبيات والقتل على الهوية المذهبية، لكي يكتشفوا، كما اكتشف أقرانهم في الغرب، أنهم كانوا يصارعون طواحين الهواء منذ ما ينيف على ألف سنة، وأن العقائد، كما قال الدكتور: علي الوردي في كتابه (خوارق اللاشعور): "ليست في يد الإنسان، وهو لا يستطيع أن يحصل عليها أو يتركها كما يريد. بل إنها قناعة (لا شعورية) تأتي نتيجة الإيمان القوي والمراس الطويل، والانغمار الذي يخامره شك".

وهي نفس الفكرة التي توصل إليها الجاحظ قبل ألف سنة، عندما قال بأن آراء الإنسان وعقائده ليست إرادية، بل هي مفروضة عليه فرضاً، وأنها نتيجة حتمية لكيفيه تكوين عقله وما يعرض عليه من الآراء.

ومن ثم، فإنك مهما بالغت في الإساءة إلى إنسان ما بسبب ما تعتقده أنت من ضلال عقيدته، ناهيك عن أن تقاتله عليها، فإنك لن تزيده إلا تمسكاً بها، وزيادة في اقتناعه بصحتها. ويبقى الهدي الرباني هو الفيصل في الموضوع فالله عز شأنه يقول: "لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة". ولقد فسر بعض أئمة التفسير الشرعة هنا بالدين، والمنهاج بالمذهب.

ولله الأمر من قبل ومن بعد.
&